في ذكرى إحدى أحلك الفصول في تاريخ القرن العشرين، يقف الفلسطينيون كل عام في منتصف شهر أيار/مايو ليستذكروا النكبة – المأساة الوطنية التي حلت بهم عام 1948. قبل سبعة وسبعين عامًا، وفي خضم تحولات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت غالبية الشعب الفلسطيني نفسها على طرقات اللجوء بعيدًا عن منازلها وقراها التي عاش فيها آباؤهم وأجدادهم لقرون.
خلال بضعة أشهر فقط عام 1948، تغيرت خريطة فلسطين ومعها مصائر ملايين البشر إلى الأبد. كانت الشرارة قرارًا أصدرته الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 قضى بتقسيم فلسطين الانتدابية إلى دولتين: واحدة يهودية وأخرى عربية. رأى الفلسطينيون في ذلك القرار إجحافًا تاريخيًا؛ فقد منح أكثر من نصف أرض فلسطين لمشروع إقامة دولة يهودية، في وقت كان فيه اليهود يشكلون نحو ثلث السكان فقط. رفض الفلسطينيون والدول العربية خطة التقسيم،
وسرعان ما انزلقت البلاد إلى دوامة العنف. تصاعد التوتر بين الجاليتين العربية واليهودية في فلسطين إلى مواجهات مسلحة مفتوحة مع بدايات عام 1948. وبينما كانت بريطانيا تستعد لإنهاء انتدابها في فلسطين والانسحاب،
كانت التنظيمات الصهيونية قد أعدّت خططها للسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي تمهيدًا لإعلان دولة إسرائيل. مع اشتعال الحرب، شهدت أرض فلسطين أحداثًا مروعة لا تزال ذاكرة الفلسطينيين الجمعية تنوء بثقلها. في قرية دير ياسين الهادئة القريبة من القدس، استفاق الأهالي فجر 9 أبريل 1948 على هجوم دموي شنه مقاتلون من جماعتَي الإرجون وشتيرن الصهيونيتين.
قُتل في المجزرة نحو مئة من النساء والرجال والأطفال بوحشية أثارت الرعب في النفوس. لم تكن دير ياسين سوى مثال واحد من أمثلة عديدة شهدتها تلك الفترة؛ إذ سقطت مدن فلسطينية كبرى تحت وقع القصف والمعارك – حيفا ويافا وعكا وغيرها – وفرّ معظم سكانها بحثًا عن ملاذ آمن. في غضون ذلك، كانت عصابات المستوطنين المسلّحة تنفذ سياسة الأرض المحروقة في القرى والأرياف: قرية تلو الأخرى كانت تُهاجم ويُطرد أهلها، ثم تُسوّى بيوتها بالأرض أو تُوطَّن فيها عائلات يهودية جديدة مكان سكانها الأصليين.
في 14 مايو 1948، وفيما كانت آخر قوافل الجنود البريطانيين تغادر ميناء حيفا، أعلن قادة الصهيونية في تل أبيب قيام دولة إسرائيل. وبعد ساعات قليلة، دخلت جيوش عربية من دول مجاورة أرض فلسطين في محاولة لنجدة ما يمكن نجدته. ورغم بعض النجاحات الأولية، اصطدمت تلك الجيوش بواقع ميداني صعب وبقدرات تنظيمية وعسكرية متفوقة اكتسبتها القوات الإسرائيلية الوليدة. استمرت الحرب بضعة أشهر أخرى انتهت عمليًا بهدنة مؤقتة ثم سلسلة اتفاقيات لوقف إطلاق النار.
ومع توقف أصوات المدافع بحلول أوائل عام 1949، كانت الدولة الجديدة قد وسّعت حدودها إلى ما يتجاوز ما خصصته لها الأمم المتحدة في قرار التقسيم، بينما تحولت فلسطين العربية إلى أطلال: أكثر من 500 قرية وبلدة أزيلت من الوجود أو أخليت من أهلها، ونحو ثلاثة أرباع مليون فلسطيني شُردوا خارج ديارهم التي أصبحوا لاجئين منها وإليها في آن واحد. مشاهد عام 1948 وما تلاها لا تزال حاضرة بقوة في الوجدان الفلسطيني. عائلات كاملة سار أفرادها لأميال طويلة مشيًا على الأقدام عبر الحقول والأودية يحملون ما تيسر من متاع، ويجرّون وراءهم أطفالهّم ويشدون على أيدي كبارهم. آخرون فرّوا على عجل في شاحنات مكتظة أو قوارب بدائية عبر البحر الأبيض المتوسط، على أمل العودة بعد انتهاء القتال. لكن الأمل بالعودة السريعة تبخر شيئًا فشيئًا. فمع توقيع اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل والدول العربية في عام 1949،
ورفض السلطات الإسرائيلية السماح للاجئين بالرجوع، أدرك الفلسطينيون أن رحيلهم قد يطول. استقر معظمهم في مخيمات للاجئين بمناطق قريبة: في قطاع غزة الصغير الذي تديره مصر، وفي الضفة الغربية التي أصبحت تحت حكم الأردن، إضافة إلى مخيمات في لبنان وسوريا.
في تلك المخيمات – وهي بقاع بائسة من الخيام والصفيح – وُلد جيل جديد من الفلسطينيين لم يرَ أرض الآباء قط، لكنه رضع مع الحليب حبها والحنين إليها. لم تكن النكبة مجرد حدث عابر في تاريخ المنطقة، بل هي زلزال سياسي وإنساني أعاد تشكيل الشرق الأوسط برمته. بقيت القضية الفلسطينية التي ولّدتها النكبة ملفًا ساخنًا على أجندة العالم حتى يومنا هذا. فظهور إسرائيل كدولة حديثة ترافق مع اختفاء فلسطين من الخريطة، ما خلق معضلة هوية وشرعية ما زالت موضوع نزاع مرير. كما أن مئات الآلاف من اللاجئين الذين تشتتوا في بقاع الأرض سرعان ما أصبحوا ملايين من الأبناء والأحفاد، يحملون جنسيات مؤقتة ووثائق سفر خاصة، ويعيش الكثير منهم في مخيمات اللجوء بانتظار حل عادل لمحنتهم. وعلى مدى العقود اللاحقة، أشعلت هذه القضية صراعات مسلحة إضافية بين العرب وإسرائيل، أبرزها حرب 1967 التي احتلت فيها إسرائيل ما تبقى من فلسطين التاريخية بما في ذلك القدس الشرقية.
ورغم توقيع معاهدات سلام بين إسرائيل وبعض الدول العربية في العقود الأخيرة، ظل مصير الشعب الفلسطيني معلقًا إلى حد كبير، دون دولة مستقلة أو حل نهائي لقضية اللاجئين. بالنسبة للفلسطينيين، ليست النكبة صفحة من الماضي يطويها النسيان، بل هي واقع معاش يستحضرونه في كل تفاصيل حياتهم اليومية. إنها حكاية الجد الذي خبّأ مفتاح بيته على أمل العودة يومًا،
والجدة التي تحمل صورة مهد علّقته في بيتها بغزة بعدما نزحت إليه من يافا، والشاب الذي نشأ في مخيم للاجئين ولا يزال يُعرّف نفسه بأنه من قرية لم يرها قط عيناها. النكبة حاضرة في الأغنية الشعبية وفي القصيدة واللوحة التشكيلية، في أسماء الشوارع والمناسبات الوطنية،
وفي وجدان كل طفل فلسطيني يسمع من أهله قصص الوطن الضائع. كذلك باتت ذكرى النكبة مناسبة عالمية لإحياء التضامن؛ حيث يعقد الفلسطينيون وأنصار قضيتهم فعاليات سنوية في مختلف دول العالم لتذكير المجتمع الدولي بأن هناك شعبًا لا يزال ينتظر الإنصاف منذ عام 1948. لقد كان الثمن الذي دفعه الفلسطينيون في النكبة غاليًا جدًا: وطن مجروح، ومجتمع مبعثر، وجراح إنسانية لا تعد ولا تحصى. ومع ذلك،
فإن قصة النكبة هي أيضًا قصة صمود وأمل. فعلى الرغم من كل شيء، لم يفقد الفلسطينيون إيمانهم بحقهم. جيلا بعد جيل، ورثوا مفاتيح البيوت وقصصها، وحافظوا على تقاليدهم وثقافتهم لتبقى جذورهم ضاربة في أرضهم وإن حرموا من العيش عليها. وبعد مرور 77 عامًا،
لا تزال قضية فلسطين حية، ولا يزال مطلب العودة والحرية وتقرير المصير ماثلًا في عقول وقلوب الملايين. وبينما يطوي العالم سنة أخرى، يظل الفلسطينيون يرددون الوعد نفسه: “لن ننسى” – لن ننسى الوطن السليب، ولن نتخلى عن حلم العودة، حتى تتحقق العدالة وينتهي الفصل الأطول من مآسي القرن العشرين.
د ماك شرقاوي الكاتب الصحفي
والمحلل السياسي المتخصص في الشأن الأميركي
رابط الحلقة :