شحاتة زكريا يكتب: المحاور الجديدة.. لماذا تتحرك مصر بين واشنطن وبكين؟

3

في عالم اليوم حيث تزداد التعقيدات الجيوسياسية وتتغير موازين القوى بسرعة تبدو مصر كدولة تسعى إلى إعادة تشكيل مكانتها عبر التحرك بحذر وذكاء بين أكبر قوتين عالميتين: الولايات المتحدة الأمريكية والصين. هذه الحركة ليست مجرد خيار استراتيجي عابر بل هي ضرورة حتمية لبلد بحجم مصر وأهميتها الجغرافية والسياسية والاقتصادية.

لطالما كانت مصر محورا إقليميا مهما بموقعها الاستراتيجي الذي يربط بين أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وبفضل تاريخها ودورها السياسي في المنطقة. ومع تصاعد التنافس بين واشنطن وبكين باتت القاهرة أمام فرصة فريدة لتعزيز مصالحها عبر صناعة محور متوازن يضمن لها أقصى قدر من المنافع السياسية والاقتصادية.

الولايات المتحدة التي تعتبر شريكا تاريخيا لمصر ما زالت تحتفظ بنفوذ كبير عبر الدعم الأمني والعسكري والتمويل والتكنولوجيا فضلا عن العلاقات السياسية التي تعود لعقود. ومع ذلك فإن سياسة واشنطن المتغيرة والاهتمام النسبي الذي تتقلب حوله أحيانا بالشرق الأوسط ، دفع مصر إلى البحث عن بدائل استثمارية واستراتيجية تكمل علاقاتها التقليدية.

وهنا تبرز الصين كقوة صاعدة تقدم نموذجا مختلفا وأكثر انفتاحا في التعاون الاقتصادي. مبادرة “الحزام والطريق” التي تربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا ومشروعات البنية التحتية الكبرى ، والتمويل الواسع ، جعلت من الصين شريكا مغريا لمصر خصوصا في وقت تحتاج فيه القاهرة إلى استثمارات ضخمة لتنفيذ رؤية 2030 للتنمية.

التحرك بين واشنطن وبكين يعكس رؤية استراتيجية لمصر تقودها مصلحة الوطن ، حيث لا يعني التقارب مع الصين التخلي عن العلاقة مع الولايات المتحدة ، بل الاستفادة من كلا القوتين لتعظيم المكتسبات. هذا التوازن يتيح لمصر أن تظل لاعبا محوريا قادرا على التأثير في مسارات السياسة الإقليمية والدولية.

في الجانب الاقتصادي لا يمكن إنكار أن الصين توفر فرصا هائلة للاستثمار في مجالات التكنولوجيا الطاقة المتجددة واللوجستيات بينما الولايات المتحدة تقدم خبرات في مجالات الدفاع والتكنولوجيا المتقدمة والتعاون السياسي. الجمع بين هذين النوعين من الشراكات يعزز قدرة مصر على النمو والتحديث.

أما على الصعيد السياسي فإن القاهرة تسعى لتوظيف هذه العلاقات لتأمين دعم دولي قوي في ملفات حيوية مثل ملف مياه النيل مكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي. القدرة على التنقل بين المحاور المختلفة تفتح أمام مصر قنوات دبلوماسية أوسع وتمنحها هامشا أوسع للتحرك في القضايا الإقليمية والعالمية.

لكن هذا التوازن ليس سهلا فهو يتطلب حكما دقيقا في اتخاذ القرارات وتجنب الانحياز الكامل لأي طرف. مصر تدرك أن الاختيار الخاطئ قد يكلفها كثيرا خصوصا في ظل التوترات المتزايدة بين واشنطن وبكين والتي تحمل مخاطر تصعيد قد تمتد لتطال الأمن الإقليمي.

في النهاية صناعة المحاور الجديدة في السياسة المصرية تعكس تطورا في التفكير الاستراتيجي ، حيث لا مكان للخيارات الأحادية في عالم معقد. مصر اليوم تسعى لأن تكون جسرا بين الشرق والغرب وأن تستخدم موقعها وتاريخها ومكانتها لتحقق أقصى قدر من الاستفادة وتثبت قدرتها على التكيف مع متغيرات العصر.

إن هذه السياسة الذكية القائمة على التوازن والمصالح المتبادلة ليست فقط ضمانا لاستقرار مصر بل قد تكون نموذجا يحتذى به لدول أخرى تبحث عن موقعها في نظام عالمي جديد يتسم بالتنافس الشديد والتغير المستمر.