شحاتة زكريا يكتب: بين لاهاي وغزة.. حين تطارد العدالة مجرمي الحرب
في لحظة فارقة من عمر النظام الدولي تعود القضية الفلسطينية لتتوسط قاعات العدالة ، لا كصراع مزمن تتلاعب به مصالح القوى الكبرى ، بل كملف جرائم مكتمل الأركان يواجه الضوء في محكمة العدل الدولية. ورغم الغبار الكثيف الذي تثيره ماكينات التضليل الصهيوني ورغم الغطاء الأمريكي الذي يمد الاحتلال بما يلزمه من غطرسة وأسلحة وقرارات معطلة إلا أن ساعة الحقيقة تدق.. والعالم يصغي.
ما يحدث في غزة ليس نزاعا عسكريا ، بل جريمة موثقة تُرتكب بدم بارد على مرأى العالم وعلى مدى أشهر لم تدخل شاحنة غذاء أو دواء واحدة دون أن تمر تحت مقصلة الابتزاز ولم تسلم مؤسسة أممية من القصف ولا مدرسة من التنكيل ولا مستشفى من الحصار .. وأمام مشهد بهذا الحجم من البشاعة لم يعد التواطؤ صمتا بل صار شراكة واضحة في الإبادة.
حين تطلب الجمعية العامة للأمم المتحدة رأيا استشاريا من محكمة لاهاي حول مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي في تعطيل المؤسسات الأممية بالأراضي الفلسطينية فهي لا تحرك ورقة قانونية فحسب ، بل تحفر أول مسمار حقيقي في جدار الحصانة الزائفة التي احتمت بها إسرائيل لعقود. هذه ليست جلسة نظرية بل لحظة كاشفة تشارك فيها مصر وفلسطين، ومعهما أكثر من ٤٥ دولة ليضعوا على الطاولة شهاداتهم القانونية حول جريمة كبرى تُرتكب ضد الإنسانية كلها.
ورغم محاولات واشنطن لحرف البوصلة تتهاوى سردياتها أمام وعي عالمي متزايد. الجيل الجديد من الأمريكيين بمن فيهم يهود أمريكا أنفسهم ، بدأوا يشككون في أخلاقية المشروع الصهيوني ذاته بعد أن رأوا صور الأطفال تحت الأنقاض وسمعوا صرخات الأمهات التي لم تستطع آلة الإعلام الضخمة إسكاتها.
ما يجري الآن ليس فقط محاكمة لإسرائيل بل اختبار صارم لمصداقية المجتمع الدولي ولجدوى ما تبقى من مبادئ القانون الدولي. وإذا كانت موازين القوى لا تزال مختلة فإن موازين الضمير العالمي بدأت تستفيق. هناك عيون في الجنوب العالمي وفي شوارع أوروبا وأمريكا تتابع ما يجري في لاهاي ليس بوصفه مشهدا قانونيا ، بل أملا في تصحيح ميزان مائل منذ أكثر من سبعة عقود.
الاحتلال اليوم لا يواجه فقط مقاومة فلسطينية باسلة بل يواجه عُزلة أخلاقية ، وقناعة تترسخ في العقل الجمعي للعالم بأن الصهيونية في صيغتها المعاصرة أصبحت خطرا على استقرار النظام الدولي ، تماما كما كانت النازية خطرا على الحضارة ذات يوم.
نحن أمام منعطف لن تُمنح العدالة مجانا لكنها تُنتزع خطوة خطوة حين يكون العالم مستعدا لأن يرى ويسمع ويتحرك. وإن كانت العدالة تسير ببطء فإنها في النهاية تصل. فالذين يتحرقون شوقا إلى العدل أكثر بكثير من أولئك الذين يرتعدون منه.