شحاتة زكريا يكتب : سياسة ترامب التجارية.. حائط صدّ أم قيد حديدي؟
فى خضم السباق الرئاسى الدائر فى الولايات المتحدة يطل دونالد ترامب مجددا على المشهد السياسى وهو يُلوح بورقة الاقتصاد القومى ، مستعيدا نفس النغمة القديمة: فرض رسوم جمركية على الواردات من أجل “حماية” الصناعة الأمريكية. ظاهريا يبدو الخطاب جاذبا لشريحة من الناخبين القلقين على وظائفهم ومستقبل أسرهم. لكن خلف هذه اللغة الشعبوية تكمن معادلة شديدة التعقيد وربما شديدة الخطورة أيضا.
فى التسعينيات تعرّضت صناعة السيارات الأمريكية لهزة عنيفة ليس فقط بسبب المنافسة اليابانية والأوروبية ولكن أيضا بسبب الغرور المؤسسى. لسنوات افترضت شركات ديترويت أن بُعد المسافة والتكاليف اللوجستية كفيلة بحماية السوق الأمريكى من السيارات الآسيوية. لكن حين جاءت “تويوتا” و”هوندا” إلى الأراضى الأمريكية بأيد عاملة مدرّبة وجودة إنتاج لا تقبل المساومة بدأ الأمريكيون يطرحون الأسئلة الصعبة: لماذا ندفع أكثر مقابل سيارة أقل كفاءة؟ لماذا لا يستطيع مصنعونا مجاراة التطور الخارجى؟
مرت العقود وتعلمت الصناعة الدرس. بدأت شركات مثل “فورد” و”جنرال موتورز” تُعيد النظر فى خطوط إنتاجها وتضخ استثمارات ضخمة فى البحث والتطوير.وأصبحت المنافسة حافزا للتغيير لا خطرا يتهربون منه. واليوم حين يُعاد طرح السياسات الحمائية باعتبارها طوق نجاة ينبغى أن نُذكّر أنفسنا بأن الانعزال لم يكن يوما طريقا للنمو بل أداة لتجميد الحراك وتعطيل الابتكار.
ترامب لا يفرض ضرائب على المنتجات الأجنبية فحسب بل يدفع الآخرين إلى الرد بالمثل. النتيجة؟ تضييق الأسواق أمام المنتجات الأمريكية ، وارتفاع تكاليف التصدير ، وحرمان الشركات الأمريكية من فرص شراكات استراتيجية عالمية. الأسوأ من ذلك أن هذه البيئة غير التنافسية قد تدفع الصناعات الأمريكية إلى التراخى والاعتماد على “الحماية السياسية” بدلا من “القوة الإنتاجية”.
العالم لا يتوقف. الدول الأخرى تسعى لإبرام اتفاقات تجارية فيما بينها تعزز التبادل وتقلل الرسوم بينما تنعزل واشنطن خلف جدران الرسوم الجمركية. والنتيجة الحتمية أن تصبح المنتجات الأمريكية أكثر تكلفة وأقل جاذبية فى سوق عالمى يتطلب خفة الحركة وسرعة التكيّف.
ما يُفترض أن يكون درعا للصناعة قد يتحوّل إلى قيد يُكبّلها ويمنعها من التفاعل مع المعايير العالمية المتجددة. وربما تكون أكبر خسارة هى فقدان الحافز على التطوير حين تنعدم المنافسة ، ويُغلق الباب أمام المقارنة ، ويغيب التحدى الذى يُخرج أفضل ما فى المصانع والعقول.
سياسات ترامب الاقتصادية قد تُرضى الميول الانتخابية فى المدى القصير لكنها تُهدد بتآكل البنية التنافسية للصناعة الأمريكية على المدى البعيد. ما تحتاجه الولايات المتحدة ليس جدرانا تجارية ، بل جسورا من التعاون ، واستثمارات فى التعليم والتكنولوجيا والبنية التحتية ليكون الإنتاج الأمريكى قادرا على المنافسة لا محميا من الفشل.