شحاتة زكريا يكتب: من الأوهام إلى الأوراق.. لماذا لم تعد طهران قِبلة للمقاومة؟

1

لأكثر من أربعة عقود نجحت طهران في تسويق نفسها باعتبارها الراعي الأول لقوى المقاومة في المنطقة فارتفعت شعارات القدس ، ورفرفت رايات “نصرة المستضعفين” وسُوّقت إيران كقلعة حصينة تقف ضد الغطرسة الأمريكية والإسرائيلية لكن مع انكشاف طبقات الواقع ، لم تعد هذه الصورة قادرة على الصمود لا في الشارع العربي ولا حتى داخل بعض أروقة الحلفاء.

في زمن التحشيد العقائدي استطاعت طهران أن تُغلف مشروعها القومي الطائفي بثوب الممانعة فبدت لكثيرين وكأنها الطرف الأكثر صدقا في المواجهة مع إسرائيل والغرب خاصة بعد أن كانت عواصم كبرى تُعلن تطبيعها أو تقف على الحياد البارد.
لكن في العقد الأخير تغيّر كل شيء. الواقع لم يعد يقبل الشعر السياسي.

انكشفت أوراق اللعبة. لم تعد طهران قِبلة ولا مقاومتها مقاومة بل غدت عاصمة ثقيلة على حلفائها تشتري المواقف بالدماء وتبيع الشعارات في بورصة الانقسام.

الشارع العربي اليوم بات أكثر وعيا وأكثر قدرة على التمييز بين من يقاتل لأجل فلسطين ومن يقاتل على أرضها لتصفية حساباته. فما يحدث في سوريا ولبنان والعراق واليمن يؤكد أن البندقية التي رفعتها طهران باسم “القدس” وُجهت غالبا إلى صدور العرب قبل أن تصل إلى جدار الاحتلال.

في سوريا دعمت نظاما قتل مئات الآلاف من شعبه ، فقط لأنه حليف. وفي لبنان رهنت القرار الوطني لحزب مسلح لا يخضع إلا لفقيه في قم. وفي العراق لم تُسهم في إعادة بناء الدولة بل في تقويضها. وفي اليمن غرس الحرس الثوري صراعا أهليا طويلا لم يجن منه “أنصار الله” إلا مزيدا من الحصار والانهيار.

أما في فلسطين فالواقع أكثر مرارة. فبينما تُرفع رايات إيران على المنصات لا أحد ينسى أن الرد الإيراني على اغتيال قادة حماس كان صمتا مدويا، وبيانات محسوبة، لا رصاصة فيها ولا موقف حاسم. حتى حين اندلعت الحرب الأخيرة بدت طهران وكأنها تدير الأزمة لا لتخفف وطأتها ، بل لتوظّفها في تفاوضها النووي وورقتها الإقليمية.

السؤال الآن لم يعد: “هل تدعم طهران المقاومة؟”، بل: “لمن تخضع هذه المقاومة؟ ومن يدفع ثمنها؟”
فحين تتحول المقاومة إلى ورقة تفاوضية في يد العرّاب الإقليمي فإنها تفقد جوهرها وتتحول إلى سلاح للاستخدام السياسي لا للتحرير الحقيقي.

الجيل العربي الجديد لم يعد مخدوعا بالشعارات. هو يرى ويقرأ ويحلل ويدرك أن المقاومة التي لا تحترم إرادة الشعوب ولا تحمي وحدة الدول، ليست مقاومة ، بل نسخة جديدة من الاحتلال بمصطلحات مختلفة.

بل إن بعض الحركات التي كانت تدور في فلك طهران بدأت تدرك مأزقها، وتعيد حساباتها، لا قناعةً بالتحول، بل خوفا من أن تُدفن تحت ركام التبعية. فلم تعد الأموال الإيرانية تُنقذ ولا الغطاء الإقليمي يوفر حصانة ، خصوصا بعد أن تراجعت طهران عن كثير من التزاماتها تجاه حلفائها وتفرغت لتقوية أوراقها في التفاوض مع واشنطن وتل أبيب عبر وسطاء مسقط والدوحة.

اللافت اليوم أن دولا عربية لم تكن تحسب في الماضي على محور المقاومة باتت تدير مواقف ذكية.وتستثمر في دعم الفلسطينيين ميدانيا وسياسيا بينما اختفت بعض الشعارات من المنابر الصاخبة ، وكأن أصحابها يعيدون ترتيب أوراقهم في غرف مظلمة.

إن اختفاء طهران من المشهد المقاوم الحقيقي ليس لأنه خُذل بل لأنه خان أولويته وانحرف عن مساره واستبدل التحرير بالتكتيك والكرامة بالحسابات الضيقة.

لقد تحولت قِبلة المقاومة إلى محطة ترانزيت للمصالح ولم يعد بوسع أحد أن يثق بأن طريق القدس يمر من دمشق المحطمة أو بغداد الجريحة أو بيروت المختطفة.

في لحظة تاريخية دقيقة آن للمنطقة أن تُفرّق بين المقاومة الحقيقية التي تنطلق من قرار وطني مستقل وتخدم الشعب قبل أن تخدم الرعاة ، وبين مقاومة تُدار من بعيد وتُوظف في ملفات النووي ورفع العقوبات.

فمن الأوهام إلى الأوراق سقط القناع. ولم تعد طهران قِبلة.. بل صارت محطة مؤقتة في قطار لم يُعلن وجهته الحقيقية.