شحاتة زكريا يكتب: العالم القديم على حافة اختبار جديد

1

في عمق السحب الملبدة التي تغطي سماء أوروبا ، تختبئ أسئلة ملحة تتجاوز القارة إلى العالم بأسره: هل يملك الغرب ما يكفي من الإرادة السياسية والقدرة الاستراتيجية لمواجهة زحف الجغرافيا والتاريخ معا؟ وهل ما تزال صيغة الردع التقليدية صالحة في زمن تتكثف فيه التحالفات المؤقتة وتتفكك فيه الثوابت القديمة؟

اللافت في المشهد الدولي أن التحدي الروسي بات اليوم اختبارا مزدوجا: لا يواجه فقط أوكرانيا كدولة ذات سيادة بل يختبر في عمقه مفهوم الأمن الجماعي الغربي ، ومدى تماسك حلف الناتو واستعداد الاتحاد الأوروبي لتحمل تبعات نظام عالمي لم يعد يتسع لنصف مواقف أو تحالفات رخوة.

ربما من الخطأ اختزال الأزمة في شخص الرئيس الروسي، أو إرجاعها إلى نزعات توسعية تاريخية ، فالواقع أكثر تعقيدا من أن يُحشر في صورة قيصر يبحث عن أمجاد ماضية. روسيا – أو قل النظام الروسي – تقرأ الواقع الغربي بعين لا تخلو من الدهاء: إرادة أوروبية مرتبكة وانقسام أمريكي داخلي ، وحسابات أولويات تميل إلى شرق آسيا حيث التنين الصيني يتنفس بثقة ويمد أجنحته البحرية.

هنا تتجلى نقطة ضعف أوروبا: إنها تشعر بالخطر لكنها تتلكأ في مواجهته. دول البلطيق تُدرك أنها في مرمى الخطر ، لكن مدى الثقة في رد فعل الغرب حال حصول تدخل روسي مباغت لا يزال محل شك. ماذا لو كان في البيت الأبيض من لا يرى في معاهدة الدفاع المشترك أكثر من بند تفاوضي؟ وماذا لو قررت موسكو اختبار جدية “الردع النووي” عبر هجوم محدود لا يستدعي من وجهة نظر بعض العواصم الغربية، “حربًا عالمية ثالثة”؟

الرهانات الروسية تبدو قائمة على ثلاثة أسس: أولها إطالة أمد الحرب في أوكرانيا واستنزاف الغرب سياسيا وعسكريا وثانيها فجوة التسليح التقليدي لدى الأوروبيين، وثالثها الرهان على اضطراب الإرادة الغربية بفعل الداخل السياسي والاقتصادي الهش. وهي رهانات خطرة لكنها ليست خالية من المنطق الاستراتيجي.

في المقابل تبدو الولايات المتحدة منخرطة أكثر في أولويات آسيا حيث صعود الصين يفرض نفسه على كل طاولة قرار. لم تعد أوروبا “الملعب الأهم”، ومع ذلك فإن أي انهيار في خاصرتها الشرقية سيُربك الحسابات الأمريكية الكبرى، ويعصف بفكرة النظام الليبرالي العالمي التي بنتها واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية.

المفارقة أن الاقتصاد الروسي رغم العقوبات والضغوط لا يظهر بوادر انهيار وشيك. بالعكس قد تكون الحرب – كما جرى في تجارب عديدة – عنصرا لتكريس الاصطفاف الداخلي لا تفككه. فالحروب لا تُخاض دوما من منطق “القدرة” بل أحيانا من منطق “اللاعودة”، حين تصير الكلفة السياسية للتراجع أكبر من كلفة التقدم.

تبقى أوكرانيا حجر الزاوية. إنها ليست مجرد جبهة قتال بل خط الدفاع الأول عن أوروبا ، ومختبر صلابة المعادلة الدولية بأكملها. فشل أوروبا في دعمها بشكل كاف لن يكون فشلا أخلاقيا فقط بل فشلا وجوديا يهدد القارة كلها.

العالم القديم يوشك أن يُمتحن مجددا وما بين ضباب البلطيق وغموض البيت الأبيض ثمة لاعب شرقي لا يتعجل لكنه لا يتردد. والتاريخ – كما نعلم – لا ينتظر المترددين.