مالي بين الجماعات المسلحة ورفض فرنسا التفاوض

16

تؤكد فرنسا وباستمرار رفضها لأي تفاوض مع الجماعات المسلحة

التي تنشط في مناطق عديدة في إفريقيا وأساسا في مالي،

حيث توجد قوات فرنسية في إطار الحرب ضد الإرهاب. لكن مصادر

عدة تؤكد وجود مسافة بين خطاب يرفض هذا التفاوض ويعتبر أنه لا حل إلا بالقضاء

 

على تلك الجماعات، وواقع تثبته بعض حالات إطلاق سراح مختطفين، والتي تتم بناء على تفاوض مع تلك الجماعات، بشكل

مباشر أو عبر وسطاء.

ومن بين تلك الحالات، ما ورد في تقارير إعلامية مختلفة وعن خبراء أيضا، من حدوث تفاوض بين السلطات المالية وجماعات

مسلحة، أواخر عام 2020، حيث أطلقت السلطات المالية بموجبها سراح حوالي 200 شخص، منهم شخصيات جهادية بارزة

 

متهمة بتنفيذ عمليات إرهابية وأخرى تنتمي لجماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، وذلك مقابل إطلاق سراح الرهينة

الفرنسية صوفي بيترونان ومعتقلين أخرين. ووصف الكثير من المراقبين حينها العملية، بالإحراج الكبير للسلطات الفرنسية،

 

وخاصة للجيش، إذ تم اطلاق سراح جهاديين تم القبض عليهم سابقا في عمليات معقدة ومن الممكن أن يشكلوا خطرا في

المستقبل، علما أن الجيش الفرنسي فقد في عمليات بالمنطقة 45 جنديا منذ عام 2014 .بينما أكدت صحيفة لوموند آنذاك أن

معظم الذين أطلق سراحهم من السجون المالية لا ينتمون الى المجموعات الجهادية. وأكدت الصحيفة أن الأمر يتعلق بعناصر

ثانوية كانت تنتظر المحاكمة وأن مجموعة صغيرة من السجناء كانت لهم علاقة بعمليات إرهابية، من بينهم الموريتاني فواز

ولد أحمد المعروف بإبراهيم 10، والذي اعتقل ووجهت له تهم المشاركة في عمليات دموية كتلك التي استهدفت مطعما

في باماكو.

 

فرنسا ترفض التفاوض

يصر المسؤولون الفرنسيون على التأكيد أنهم يرفضون أي تفاوض مع الجماعات المسلحة. وأكد الرئيس الفرنسي إيمانويل

ماكرون خلال مشاركته منتصف شهر فبراير 2021 في قمة استمرت يومين بين قادة غرب إفريقيا في نجامينا بتشاد، وظهر

 

فيها ماكرون عبر الفيديو، أن بلاده رفعت من عدد قواتها في منطقة الساحل ليتجاوز الـ 5000 جندي، وأن القادة المجتمعون

اتفقوا على أنه لا يمكنهم التفاوض مع قادة اثنين من أكبر الجماعات المسلحة في المنطقة.  وأكد أنهما “عدوان” في إشارة

إلى إياد آغ غالي زعيم الطوارق في أنصار الدين وأمادو كوفا، زعيم كتيبة ماسينا، وكلاهما ينشطان أساسا في مالي.

وقال ماكرون: “إنهم ليسوا محاورين ممكنين بأي حال من الأحوال”.

 

ولم تمر إلا أيام ثلاثة بعد ذلك اللقاء حتى أعلن مختار أواني، رئيس وزراء مالي المؤقت، أن حكومته أنشأت هيئة لإجراء محادثات

مع مجموعات من المقاتلين الذين دمروا مناطق في شمال ووسط مالي وأماكن أخرى في الساحل. وقال “ترتفع الكثير من

الأصوات في مالي، وبشكل متزايد، للمطالبة بالحوار مع أشقائنا الذين انضموا إلى الجماعات المتطرفة”. وهي محادثات تأتي

 

بعدما عجزت الحكومة عن صدهم رغم المساعدة الأجنبية.  فمنذ عام 2012، اجتاح العنف مالي بشكل أكبر من السابق، عندما

تقدمت الجماعات الإسلامية المسلحة صوب العاصمة باماكو، وذلك بعد أن استولت على مساحات شاسعة من الصحاري في

 

شمال البلاد. علما أن عمليات التمرد كانت معروفة في مالي، منها أساسا تمرد الطوارق الذي كان يتم بين الحين والآخر ومنذ

استقلال البلاد عام 1960. لكن حدة التمرد الذي انطلق منذ عام 2012، فاق سابقيه واستمر واتسع حنى اجتاح جزءا كبيرا من

منطقة الساحل، بشكل أدخل البلاد في نفق مظلم من العنف.

 

وكان اتفاق السلام الذي وقعته الحكومة المالية والجماعات المتمردة في عام 2015 قد أثار بصيص أملفي انتهاء العنف، لكنه تعثر ولم يتم تنفيذه بالكامل، فعادت الجماعات المسلحة إلى تنظيم نفسها وإعادة انتشارها في البلاد، ثم تفاقم التهديد مع

حلول عام 2017، إذ قام إياد أغا غالي، بتوحيد مجموعات مختلفة من المقاتلين، بما في ذلك كتيبة ماسينا والقاعدة في بلاد

المغرب الإسلامي، تحت راية جماعة دعم الإسلام والمسلمين، ومنذ ذلك الحين ، تجاوزت هذه المجموعة خصمها، الجماعة

التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، لتصبح أكبر تهديد في منطقة الساحل وواحدة من أكثر الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة

 

نشاطًا في العالم. ولعل هذا ما دفع فرنسا إلى اعتبار هذا التنظيم عدوها الرئيس في المنطقة، وأساسا في البلدان التي ينشط

فيها بشكل خاص كمالي وبوركينا فاسو والنيجر، وأيضا في البلدان الساحلية التي يتجه بشكل حثيث نحو الانتشار فيها، مثل

 

السنغال وكوت ديفوار وغانا. علما أن القوات الفرنسية تنشط في منطقة الساحل، منذ ثماني سنوات، إلى جانب قوات الأمم

المتحدة والولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين. وكانت فرنسا قد أطلقت عملية سيرفال في أوائل عام 2013، عقب صدور قرار

 

من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وطلب مساعدة عسكرية من مالي. وفي عام 2014، تم استبدال هذا بعملية برخان

المستمرة لحد الآن. وهي عملية مستمرة شارك فيها أكثر من 5000 جندي. وفي عام 2020، قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل

ماكرون إرسال حوالي 600 جندي إضافي إلى المنطقة ووعد بزيادة التدخلات في منطقة “الحدود الثلاثة” حيث تلتقي مالي

وبوركينا فاسو ومالي بالنيجر.

 

لكن كل تلك الجهود العسكرية وإن أفضت إلى القضاء على زعيم القاعدة عبد المالك دروكدال وعلى المساعد الرئيسي لإياد أغا غالي، باه أغا موسى، فإن العنف لا يزال منتشرا في المنطقة أكثر من أي وقت مضى.

 

سلطات المنطقة تتجه نحو التفاوض

تستغل التنظيمات المسلحة في المنطقة كغيرها من التنظيمات المتطرفة، الدين والخلافات الإثنية والقبلية القائمة منذ

عقود بين سكان المنطقة، إذ تعمد إلى تأجيج الصراعات بينها، ويدعمها في ذلك الوضعان السياسي والاقتصادي في العديد

من تلك البلدان، والمتسمان بالفساد والريع والمحسوبية والفقر والظلم. كما تشجع الجماعات المسلحة شبكات بيع الأسلحة على نشر هذه الأخيرة بين السكان، ما يجعل من السهولة نشر العنف والصراعات بينهم.

 

ووفقًا لمشروع بيانات النزاع المسلح، قُتل ما يقرب من 7000 شخص في عام 2020. كما قالت الأمم المتحدة مؤخرًا إن أكثر من

مليوني شخص أجبروا على الفرار من منازلهم بسبب الصراع، وهو رقم تضاعف أربع مرات منذ عام 2019. وهناك أكثر من أربعة

عشر مليون شخص في مالي والنيجر وبوركينا فاسو في حاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية.

 

ولا يبدو أن فرنسا عازمة على الانسحاب العسكري من المنطقة، فهي تعدها إحدى المناطق التابعة لها في إطار موازين القوى لمراحل ما بعد الاستعمار في المنطقة، وهي أيضا استثمرت فيها الكثير وباتت تشكل أحد الأهداف الرئيسية للجماعات

المقاتلة. فقد سبق لبرنارد إيمييه، مدير مديرية الأمن العام أن صرح أن المسلحين في مالي يفكرون في شن هجمات في

 

أوروبا. ولعل ذلك ما يعقد إمكانية تغيير فرنسا لموقفها الرافض، بشكل علني، على الأقل التفاوض مع تلك الجماعات المسلحة. وهو ما لم تتمكن من فرضه على الدول المعنية، ففي مالي، مثلا بات السياسيون وجمعيات المجتمع المدني

والزعماء الدينيون يطالبون بالقيام بحوار مع تلك الجماعات بهدف حقن الدماء والحد من العنف الذي يجتاح البلاد ويحد من

 

إمكانية الاستقرار والأمن والتنمية. ويرى الكثير من أنصار الحوار أن الحل السياسي يجب أن يسير جنبا إلى جنب مع العمليات

العسكرية التي تقوم بها فرنسا في المنطقة كوسيلة للضغط على الجماعات كي تتفاوض. علما أن المطالب بالتفاوض مع

الجماعات المسلحة ليست جديدة، إذ أكد مشاركون في المؤتمر الوطني للتفاهم في مالي، الذي نظم عام 2017، والذي جمع

بين ممثلين عن الحكومة والجماعات المسلحة والمعارضة، أن السلطات يجب أن تعمل مع إياد أغ غالي وأمادو كوفا.

كما جمعت مفاوضات عام 2019، التي أُطلق عليها اسم “الحوار الوطني الشامل”، بين شخصيات وطنية بارزة، بما في ذلك

الرئيس آنذاك إبراهيم بوبكر كيتا، وطُرح حل التفاوض مع الجماعات المسلحة كأحد الحلول للحد من العنف، وقد اعترف كيتا حينها، وبشكل علني، بأن الحكومة على اتصال مباشر مع أغا غالي وكوفا.

 

ورغم الإطاحة بكيتا في آب/ أغسطس 2020، وافقت المفاوضات الوطنية التي أعقبت الانقلاب على فكرة التشاور مع الجماعات العنيفة على المستويين الوطني والمحلي.

كما قال رئيس الوزراء كريستوف دابيري أمام البرلمان “إذا أردنا وضع حد للأزمة الأمنية، فسيتعين علينا إيجاد طرق جديدة

للتحدث مع المسؤولين عن الهجمات الإرهابية من أجل استعادة السلام”. ويؤكد خبراء أنه أمام ضعف الدولة وانهيار البنيات

التحتية وضعف الاستقرار والأمن، لا حل للوضع إلا بالدخول في مسار مفاوضات. وهم يعتبرون أن فرنسا التي تقول إنها ترفض

 

الحوار، توجد بعيدا عن وضع الأرض وأن السكان هم من يؤدون ثمن الصراعات الدموية من حياتهم وحياة أبنائهم ومن واقعهم اليومي.