إيران وإسرائيل… لعبة عقول أم مواجهة بلا خطوط حمراء؟ بقلم: شحاته زكريا
في الشرق الأوسط حيث تتشابك السياسة مع الدين والجغرافيا والاقتصاد تصبح كل خطوة استراتيجية أكثر تعقيدا وكل تحرك قد يُترجم إلى رد فعل عالمي. ومن بين أقدم وأشد النزاعات التي لا تهدأ يبرز الصراع الإيراني الإسرائيلي، صراع لا يشبه أي مواجهة تقليدية بل يبدو أحيانا وكأنه لعبة عقول معقدة وأحيانا أخرى كأنها معركة بلا خطوط حمراء واضحة.
الناظر إلى التاريخ الحديث للصراع يرى نمطا مزدوجا: من جهة هناك الحسابات الدقيقة والموازنات الاستراتيجية من جهة أخرى هناك التصعيد المتكرر، والهجمات الميدانية والتهديدات العلنية التي توحي بأن أي خطأ قد يشعل المنطقة بأسرها. إيران وإسرائيل كل منهما يملك قدرة الردع والتأثير وكل منهما يحاول اختبار الآخر بطرق غير تقليدية سواء عبر وكلاء أو من خلال الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية، أو عبر المواجهة المباشرة أحيانًا.
لكن المفارقة الأكبر تكمن في أن الحسابات العقلانية لا تمنع التوتر من التصاعد. كل طرف يدرك جيدًا أن أي خطوة عسكرية كبيرة قد تعيد رسم خريطة التحالفات في المنطقة وتؤثر على الاقتصاد العالمي وتفتح المجال لتدخلات دولية متعددة. ومع ذلك تستمر المواجهة وكأنها اختبار دائم لإرادة الخصم واختبار لأعصاب العالم واختبار لصبر الشعوب في المنطقة.
السياسة هنا ليست مجرد تحريك قوات أو إطلاق صواريخ بل هي حرب ذكاء ومعلومات. كل حادثة صغيرة كل بيان رسمي كل تمرين عسكري كل عملية إعلامية كلها عناصر في لعبة طويلة الأمد لعبة يقرأ فيها كل طرف تحركات الآخر ويختبر ردود الفعل ويحاول توظيف الحدث لصالحه. وفي هذه اللعبة ليس دائما واضحا من يمتلك المبادرة ومن يتحكم في المشهد ومن يحرك الآخر وفق مصالحه فقط.
ومع ذلك هناك لحظات تختفي فيها الحسابات وتظهر المخاطر الواقعية. فالتصعيد في غزة، أو في الجولان أو في البحر الأحمر يضع المنطقة على شفا مواجهة حقيقية ويطرح سؤالا مؤلما: هل يمكن أن يظل كل شيء ضمن حدود اللعبة الذكية، أم أن لحظة فقدان السيطرة قريبة؟ هنا يظهر الخطر الأكبر: لعبة العقول مهما كانت محكمة يمكن أن تتحول إلى مواجهة مفتوحة بلا خطوط حمراء عندما يلتقي الصراع الإقليمي بالخطأ أو الاستفزاز أو سوء التقدير.
وفي ظل هذا التوتر المستمر يظل الدور الدولي حاضرا بقوة. القوى الكبرى من الولايات المتحدة إلى روسيا ومن أوروبا إلى الصين كلها مراقب متحرك، تتدخل أحيانا بطريقة غير مباشرة وتفرض حساباتها على ميزان القوة الإقليمي. ومع ذلك فإن أي تدخل خارجي لا يستطيع أن يزيل الواقع المحلي ، أو يحل الصراع الذي له جذوره في الأرض والهوية والسياسة، بل غالبًا ما يزيد التعقيد ويحول الصراع إلى رقعة شطرنج أكبر وأصعب.
ومن هنا يبرز السؤال الأهم: هل هناك فعلا خطوط حمراء أم أن كل شيء قابل للتفاوض حتى اللحظة الأخيرة؟ الواقع يقول إن هناك خطوطًا، لكنها غير مكتوبة رسميا وغالبا ما تُحفظ بالخبرة، بالرهانات، وبالتهدئة غير المعلنة. لكن أي تقدير خاطئ قد يجعل هذه الحدود تتلاشى وتصبح المواجهة بلا قيود بلا حسابات وبلا تحذيرات مسبقة.
ولعل ما يجعل الصراع الإيراني الإسرائيلي مختلفا عن غيره هو التركيبة المعقدة للمنطقة. فكل طرف مرتبط بحلفاء متعددين ومصالح اقتصادية وسياسية دولية وشعوب متأثرة بأحداث الصراع ووسائل إعلام تنقل كل حركة بشكل فوري. هذه الديناميكية تجعل أي تصعيد ليس مجرد مسألة بين دولتين، بل قضية إقليمية وعالمية لها انعكاسات كبيرة على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم.
وبالرغم من كل ذلك هناك دائما مساحة للحسابات العقلانية للحوار غير المباشر للتفاهمات المبطنة التي تمنع الانفجار الكامل. فكل طرف يعرف الثمن الباهظ لأي مواجهة مباشرة وكل طرف يحاول الموازنة بين التهديد والاحتواء. لكن هذه الموازنة الدقيقة ليست ثابتة، فهي تتغير مع كل حادثة ومع كل تهديد ومع كل محاولة لإعادة فرض الهيبة والنفوذ.
في النهاية الصراع الإيراني الإسرائيلي ليس مجرد صراع حدود أو نفوذ بل هو معركة معقدة بين الذكاء السياسي والتحكم في المصير بين اللعب الذهني والمواجهة الواقعية بين الرغبة في التأثير والخوف من الانفجار. ومن هنا تأتي أهمية متابعة المشهد بحذر وفهم لأن أي خطوة خاطئة قد تتحول من لعبة عقول إلى مواجهة بلا خطوط حمراء مع تداعيات لن تقف عند حدود الدولتين فقط.
إن العالم يراقب والشرق الأوسط يعيش على شفا لحظة حاسمة لكن الحقيقة الأهم هي أن الصراع الحقيقي ليس في القوة العسكرية فقط بل في القدرة على إدارة العقل والعاطفة والسياسة في آن واحد. وهذه المعادلة هي التي ستحدد مستقبل المنطقة وستعرف من سيستمر في قيادة اللعبة، ومن سيكتفي بالمراقبة ومن سيدفع الثمن غاليا إذا اختلطت الأوراق وانهارت الخطوط الحمراء.
