المغرب .. خبراء: “الحسابات الجهوية” وثيقةُ إنذار تكشف وجه “المغرب بسرعتين”

2

على الرغم من تثمينهم “المؤشرات الإيجابية” التي حملتها “مذكرة الحسابات الجهوية لسنة 2023” الصادرة عن مندوبية التخطيط، وعلى رأسها تسجيل الاقتصاد الوطني لمعدل نمو 3,7 في المائة؛ فإن هذا الرقم العام “يُخفي تفاوتات بنيوية عميقة بين جهات المملكة”، حسب خبراء مغاربة في الشأن الاقتصادي والتنمية الترابية.

وسجل متابعون للشأن التنموي ومحللون، ممن استقتِ هسبريس آراءهم، أن وجه “المغرب المتقدم” (في جهات الرباط ـ سلا ـ القنيطرة والبيضاء ـ سطات وطنجة ـ تطوان ـ الحسيمة التي تستحوذ على أزيد من نصف الثروة الوطنية) لا يُمكن أن يُخفي الوجه الآخر: “مغرب بسرعتين”، حيث تتحرك بعض الجهات بسرعة نحو التصنيع والتصدير؛ فيما تظل جهات أخرى غارقة في الهشاشة والبطء التنموي.

مسؤول بالموساد: عملاؤنا عملوا تحت النيران في قلب بيروت لتأمين معلومات استخباراتية لاغتيال نصرالله

الأرقام الواردة في مذكرة رسمية تظل كاشفة في هذا الصدد؛ فعلى سبيل المثال، سجلت جهة الداخلة- وادي الذهب معدل نمو استثنائيا بلغ 10,1 في المائة، في رقم “يُثير الإعجاب ظاهريا”؛ لكنه عند التحليل يكشف عن اقتصاد غير متنوع، يعتمد أساسا على قطاع الصيد البحري وقطاع البناء، وهما قطاعان مُعرضان لتقلبات خارجية؛ ما يجعل النمو “غير مستدام”.

في المقابل، سجلت جهات مثل جهة بني ملال- خنيفرة (ناقص 1,3 في المائة) والجهة الشرقية (ناقص 1 في المائة) انكماشا اقتصاديا، “نتيجة التراجع الحاد في الإنتاج الفلاحي؛ مما يعكس الاعتماد المفرط على الفلاحة التقليدية كمصدر وحيد للدخل، دون تنويع أو إدماج في الاقتصاد الوطني المنتج”، ما نبه إليه محمد عادل إيشو، أستاذ في علوم الاقتصاد بجامعة السلطان المولى سليمان ببني ملال.

“غياب حقيقي للعدالة المجالية”
أما على مستوى “تمركز الثروة”، فالمعطيات ذاتها تكشف، حسب قراءة إيشو معلقا لجردة هسبريس، أن ثلاث جهات فقط تنتج ما يقارب 60 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي: الدار البيضاء – سطات (32,2 في المائة) بوصفها “القطب الصناعي والخدماتي الأول”، ثم الرباط – سلا – القنيطرة (15,7 في المائة) التي ما زالت القلب الإداري والسياسي، تَليها طنجة – تطوان – الحسيمة (10,6 في المائة): بفضل “بنيتها الصناعية الموجهة للتصدير”.

بالمقابل، أثار الاقتصادي نفسه “استمرار تهميش الجهات الجنوبية ودرعة- تافيلالت التي لا تتجاوز مساهمتها مجتمعة 7,6 في المائة من الناتج الوطني، رغم مؤهلاتها الكبيرة؛ وهو ما يعكس غيابا حقيقيا للعدالة المجالية”، بتعبيره.

وتابع المتحدث عينه شارحا للجريدة: “الهوة تصبح أكثر وضوحا حين ننظر إلى نصيب الفرد من الناتج الداخلي الإجمالي: من 89,533 درهما في الداخلة إلى 25,324 درهما فقط في درعة – تافيلالت، بفارق يقارب 3.5 مرات؛ ما يعني أن مواطنا في جهة حدودية يحصل نظريا على أكثر من ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه مواطن في الداخل، رغم خضوعهما لنفْس السياسات العمومية”.

“وثيقة إنذار”
وأجمل محمد عادل إيشو قائلا: “كل هذه المعطيات تجعل من مذكرة الحسابات الجهوية وثيقة إنذار، لا مجرد تقرير اقتصادي. وهي تؤكد بوضوح ما عبر عنه جلالة الملك محمد السادس في خطاب العرش الأخير (يوليوز 2025) بحديثه عن أنه “لا مكان لمغرب بسرعتين… آن الأوان لانطلاقة حقيقية لإعادة تأهيل المجالات الترابية وتحقيق الإنصاف المجالي والاجتماعي”.

وسجل الأستاذ الجامعي المتخصص في علوم الاقتصاد أن “الرسالة الملكية كانت صريحة: لا تنمية دون عدالة ترابية، ولا مشروع وطني قابل للاستمرار دون معالجة الخلل في توزيع الثروات والخدمات”.

انسجاما مع دعوة الملك إلى “جيل جديد من البرامج الترابية” التي تقوم على التكامل والخصوصيات المحلية، اقترح الخبير سالف الذكر “إعادة توجيه الاستثمار العمومي حسب مؤشر الإنصاف المجالي، مع تمييز إيجابي للجهات المتأخرة تنمويا، حتى تستعيد مكانتها داخل الدورة الاقتصادية الوطنية”.

كما شدد المتحدث عينه على “تفعيل الجهوية المتقدمة كآلية لتخطيط تنموي لا مركزي، عبر منح الجهات سلطات مالية وبرمجية واضحة، وربط التمويل العمومي بمدى تحقيق العدالة الترابية”، مضيفا ضرورة “خلق أقطاب تنموية متكاملة في الجهات المهمشة، حيث في الجنوب: قطب بيئي وسياحي مستدام، مع إمكانية قطب فلاحي ذكي وصناعة غذائية في الشرق، أما “الوسط: قطب صناعات خفيفة وتعليم مهني عالي الجودة”.

ولفت الأستاذ في علوم الاقتصاد بجامعة السلطان المولى سليمان ببني ملال إلى إمكانية “تحفيز الاستثمار الخاص المحلي من خلال إعفاءات جبائية موجهة إلى المشاريع التي تُخلق في المناطق الفقيرة، وربط الدعم بمؤشرات التوظيف والتنمية المحلية”، إلى جانب “دمقرطة الوصول إلى الخدمات الأساسية (الصحة، التعليم، النقل، الماء)، عبر آليات تعاقدية واضحة بين الدولة والجهات، بمؤشرات أداء ومراقبة دورية”.

ودعا، أيضا، إلى “ربط آليات الدعم الاجتماعي بالمجال الجغرافي، حتى تستهدف الجهات الأكثر هشاشة، وليس فقط الأفراد، وتحقيق التوازن بين البعد الاجتماعي والمجالي”.

وختم إيشو محذرا من أن “المغرب يقف، اليوم، أمام منعطف تنموي حاسم: بين استمرار دينامية النمو الوطني، وضرورة توزيع عادل لثماره؛ فخطاب العرش وضع الإطار السياسي والرمزي. أما الأرقام الرسمية فتكشف عن فجوة تتسع. لقد انتهى زمن الاكتفاء بالحديث عن “الجهوية” و”العدالة”، وآن الأوان للانتقال إلى تفعيلها كمؤشرات قياس ومشاريع حقيقية على الأرض(…) والأهمُ هو متى نبدأ فعلا في ردم الفوارق؟”.

صندوق “التضامن المجالي”
طارق المودن، الباحث المغربي في قضايا التنمية الترابية، أكد أن “النموذج التنموي الوطني لا يمكن أن يقوم على منطق السرعتين أو على تفاوت إيقاعات بين الجهات. المطلوب هو نموذج شامل ومندمج يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات وتحديات كل منطقة على حدة، ويضع في صلب أولوياته آليات فعالة للتضامن المجالي باعتباره اليوم ضرورة استراتيجية لا محيد عنها.

وأضاف المودن، في تصريح لهسبريس، أنه “لبلوغ ذلك، ينبغي اعتماد مقاربة ترابية مندمجة تمنح للمجالس المحلية والجهوية الصلاحيات الحقيقية في التخطيط والتمويل، وتُواكبها بآليات دعم قوية”.

وأورد الباحث المغربي في قضايا التنمية الترابية “من بين المقترحات العملية في هذا السياق إنشاء صندوق للتضامن بين الجهات موجه إلى تمويل المشاريع الكبرى والمهيكلة في المناطق الأقل حظا، بما يضمن إعادة توزيع جزء من الثروة الوطنية بشكل عادل، ويحفز الاستثمارات العمومية عبر تحفيزات جبائية مدروسة”.

كما أن ربط المسؤولية بالمحاسبة في تنفيذ المشاريع “رافعة أساسية لإحداث دينامية تنموية فعلية”، حسب الباحث مؤلف كتاب بعنوان “propositions.. Harmonies Durables pour un développement territorial responsable” (تناغمات مستدامة.. مقترحات من أجل تنمية ترابية مسؤولة).

وفي تقديره، “من الضروري توجيه جزء معتبر من السياسات العمومية نحو التعليم والصحة والبنيات التحتية لسد الخصاص الكبير وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية. ويوازي ذلك تعزيز الابتكار في آليات التدخل، بما فيها إعادة هيكلة صناديق الاستثمار القائمة وتحويلها إلى أدوات استراتيجية قادرة على إحداث أثر ملموس في حياة المواطنين”.

من المقترحات الإضافية التي بسطها المصرح لهسبريس “التفكير في تقييم الأثر الترابي لكل مشروع ممول لضمان مردوديته الواقعية، وإحداث نظام تحفيزي يشجع الجهات المتقدمة على إبرام شراكات مع الجهات الأقل نموا، مع منح امتيازات إضافية في تقييم أدائها مقابل مساهمتها في التضامن الوطني. كما يمكن إرساء صندوق وطني للتضامن الترابي، مستقل جزئيا عن الميزانية العامة، يُمول من مداخيل الجبايات الوطنية أو من مساهمات الجهات الميسورة، ويوجه حصريا إلى الاستثمار في المناطق ذات العجز التنموي”.

وختم طارق المودن أن “الحكامة الرشيدة تقتضي تعزيز دور لجنة قيادة ذات صلاحيات تقريرية لتتبع الاختلالات المجالية وتوجيه الموارد بكفاءة، بالاعتماد على التحول الرقمي ونظم معلومات جغرافية دقيقة تحدد أولويات التدخل وفق بيانات الفقر والهشاشة”، مبرزا أن “العدالة المجالية شرط للتنمية، ولا سبيل إليها دون تضامن مؤسساتي ومستدام وقائم على رؤية وطنية واضحة، تشارك فيها كل القوى الحية، وتضمن صعود مؤشرات التنمية لفائدة جميع المغاربة”.