المنطقة بين ذاكرة الحرب وحلم التنمية
بقلم: شحاتة زكريا
لا تزال منطقتنا العربية تحمل في ذاكرتها رائحة البارود وأصداء المدافع ، كأنها لم تبرأ بعد من جراح التاريخ. من فلسطين إلى لبنان ومن سوريا إلى السودان ومن العراق إلى اليمن يتكرر المشهد بأسماء مختلفة لكن الوجع واحد. وكأن الشرق الأوسط بكل ما يملكه من خيرات وثروات لا يُكتب له أن يعيش في سلام مستقر ، بل في سلام مؤقت دائم القلق يحيا بين هدنة وأخرى وبين وعودٍ لا تكتمل وخيبات لا تنتهي.
لكنّ هذه الذاكرة الموجعة لم تعد وحدها تحكم المشهد. فثمة وعي جديد بدأ يتشكل في أكثر من عاصمة عربية وخصوصًا في القاهرة والرياض وأبوظبي وعيٌ يرى أن التنمية ليست ترفًا بعد الحرب بل هي البديل الحقيقي عنها. لأن التنمية هي المعركة الوحيدة التي لا تُراق فيها الدماء بل تُبنى فيها الأوطان وتُصان الكرامة.
من هنا جاءت فكرة تحويل الذاكرة إلى طاقة لا إلى عبء. لم تعد المنطقة تكتفي بترديد قصص الماضي وأيام المجد والخذلان بل بدأت تسأل: وماذا بعد؟ ما الجدوى من كل هذا التاريخ إن لم يصنع مستقبلًا أفضل؟ تلك النقلة الفكرية هي أخطر ما يحدث الآن في المنطقة لأنها تحوّل العقل الجمعي من انتظار النهاية إلى صناعة البداية.
في زمن لم تعد فيه الحروب تدار بالسلاح وحده أدركت بعض الدول أن الاقتصاد صار ميدان المعركة الجديد. وأن التقدم العلمي والتكنولوجي هو سلاح القرن الواحد والعشرين. لذلك نراها تخوض معاركها في ميدان التعليم والطاقة، والاستثمار، والبنية التحتية، والذكاء الاصطناعي. بينما لا يزال آخرون عالقين عند جغرافيا النار يرفعون الشعارات القديمة ويخسرون الحاضر والمستقبل معا.
في قلب هذه التحولات تبرز مصر بوصفها النموذج الأكثر تماسكا بين الذاكرة والحلم. بلدٌ خاض الحروب ودفع ثمنها من الدم والجهد والاقتصاد لكنه خرج منها بوعي مختلف. لم ينسَ تاريخه لكنه لم يتركه يقيده. فمصر التي قاتلت من أجل البقاء تبني اليوم من أجل الارتقاء. من إعادة إعمار سيناء إلى بناء العاصمة الإدارية ، ومن استصلاح الصحراء إلى تعميق الصناعة الوطنية تتعامل القاهرة مع التنمية بوصفها معركة وجود لا خطة حكومة.
الأمر ذاته نراه في تجارب خليجية ناجحة نقلت بلدانها من الرمال إلى الريادة ومن الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المعرفي. هذه التجارب تقول إن المنطقة تمتلك ما هو أكثر من النفط: تمتلك الإنسان إذا أُحسن استثماره وتمتلك الموقع إذا أُحسن توظيفه وتمتلك الذاكرة إذا تحوّلت من ألمٍ إلى حكمة.
غير أن الطريق إلى التنمية لا يخلو من التحديات. فما زال هناك من يعيش على تجارة الصراع ومن يرى في الحرب فرصة وفي السلام تهديدا. فبينما تتجه دولٌ نحو بناء المستقبل تنشغل أخرى بتصدير الأزمات وبث الفوضى وتمويل الميليشيات. وكأنّ المنطقة تُقسم من جديد لا بين شرق وغرب، بل بين عقل يبني ويد تهدم.
التحوّل الحقيقي لن يكتمل إلا عندما يدرك الجميع أن التنمية ليست مشروعًطا اقتصاديا فحسب بل مشروع وعي شامل يغيّر نظرة الشعوب إلى نفسها وإلى الآخر. فالمصنع والمدرسة والمستشفى والجامعة ليست فقط أدوات إنتاج بل أدوات سلام. هي التي تعيد تعريف الانتصار من كونه غلبة على العدو إلى كونه تقدما على الذات.
في النهاية يبدو أن المنطقة تقف اليوم على عتبة فاصلة بين ذاكرة الحرب التي أنهكتها وحلم التنمية الذي يدعوها للنهضة. والاختيار هذه المرة لن يكون بين معسكرين سياسيين بل بين ثقافتين: ثقافة الخراب وثقافة البناء.
ومن يقرأ التاريخ جيدا يدرك أن الأمم التي واجهت جراحها بصدق وقررت أن تبني بدلا من أن تبكي هي التي صنعت لنفسها مكانا في المستقبل. فهل ننجح نحن — أبناء هذه المنطقة التي علّمت العالم الحضارة — في أن نحول دموع الذاكرة إلى بذور للحياة؟
الإجابة ليست بعيدة..
إنها تُكتب الآن — في كل مشروع وفي كل طريق وفي كل حلم يواجه المستحيل بإيمان صامت وعمل لا يتوقف.
