جليدها… وناري أنا — لمى أبوالنجا قصة قصيرة

0

منذ اللحظة التي وعيت فيها على هذا العالم، بدأ شيءٌ في داخلي يزدرِيه…

كنت أثور أولًا، أرفض أولًا، أعارض أولًا، ثم أتعلم متأخرة، دائمًا متأخرة.

كنت أتلقى دروسي الأولى في الحياة بعينين غارقتين بالدموع، وبقلب يغلي كمرجل، وبروح بالكاد تقف على قدميها كي تستوعب الحكمة. ولهذا دائما ما أعيد أخطائي.

أُحاول اليوم أن أتذكر طفولتي، فأرى طفلة لم تكن يومًا “طبيعية”. طفلة لا تشبه الأطفال الذين يتصرفون وفق تعليمات الكبار؛ كان فيّ شيء أكبر من عمري، شيء يضجّ أكثر من فرط الحركة، وأعمق من المشاغبة.

كنت أكره التكلّف، أكره الابتسامات المصنوعة، أكره البروتوكولات التي تُفرض على القلب ليبدو مؤدّبًا وهو ليس كذلك.

ولجين…

كانت نقيضي الكامل.

ابنة صديقة أمي، تلك الفتاة الصغيرة اللذيذة الناعمة التي كانت تشبه قطعة ثلج وُضعت في يدٍ حارّة.

شعرٌ بني قصير أملس، وجنتين حمراء وكأن ورود الجوري تقبلها كل صباح، ملامح هادئة، خطوات بلا صوت، وبريق طفولي لا يشبهني في شيء.

وحيثما دخلت، انهالت عليها القبلات والدلال كأنها أميرة من قصص البورسلان…

بينما كنت أنا، بشعري الكثيف المشعث وروحي التي تركض قبل جسدي، شيئًا يصعب احتواؤه.

كنت أضجر من هدوئها المستفزّ، من رتابتها، من برودتها التي تُطفئ المكان.

كنت أفتعل مشكلة صغيرة—أكسر قطعة من مطبخ الألعاب، أفسد شعر دميتها، أبحث عن شرارة—عن أي شرارة—لتشتعل هي.

كنت أريد منها شيئًا بسيطًا: صرخة، غضبًا، مقاومةً، أن تتخلى لحظة عن صورة البنت المهذبة وتظهر لي قلبها كما هو.

لكنها كانت تبكي بهدوء وتذهب إلى أمها…

وأنا أزداد غضبًا من بكائها البارد أكثر مما أغضب من توبيخ أمها.

لم أكن أريد إيذاءها…

بل كنت أريد فقط أن أذيب جليدها.

ومع ذلك، في كل مرة نلتقي، كنت أركض نحوها بفرح طفولي حقيقي، أحتضنها وكأن شيئًا لم يحدث… بينما تستقبلني هي بنظرة مضطربة، نصفها خوف ونصفها رغبة في النجاة منّي.

في يوم من الأيام، جاءت لجين ووالدتها إلى مشغل خالتي لاختيار فستان عيد ميلادها.

كان الحفل باذخًا، مليئًا بالوعود الوردية التي تحبها الفتيات الهادئات أمثالها.

فرحتُ أنا أكثر منها، وبدأت أفكر بالهدية، وبهدنة نعلنها، وبفستان أرتديه لأجلها، كنا وكأننا طفلة من نور وطفلة من نار لا يمكن أن تتصافحا يومًا.

لكنّ الهاتف رنّ.

أجابت أمي… وظلّت صامتة.

كنت أظنها تتلقى تفاصيل الدعوة، ولم يخطر ببالي أن الكلمة التي قالتها والدة لجين كانت:

“تعالي أنتِ… لكن لا تجيبي لمى.”

قالت إنني ضربت لجين في آخر جمعة نسائية ، وولد أختها، وبنتًا أخرى…

قالت إنها أخّرت الحفل لأن شفة لجين تورّمت من ضربي.

لم أسمع المحادثة، سمعت الصمت فقط.

التفتُّ إلى أمي بسعادة العمياء نفسها:

– متى بنروح؟

لكن أمي حضنتني وبكت وقالت:

– لن نذهب… لأنك تضربين الناس.

تمنّيت لو أستطيع أن أعدها—ولو مرة—بأنني سأتوقف.

لكنني لم أستطع.

بداخلي شيء كان أكبر من قدرتي على الطاعة.

ومنذ ذلك اليوم…

لم تلبِّ أمي أي دعوة من تلك الصديقة.

مرت السنوات…

وكما يفعل الزمن دائمًا، يعيد إلينا وجوهًا ظننا أننا تجاوزناها.

التقيت لجين ووالدتها مصادفة… استقبلتها بحفاوة الطفلة القديمة نفسها، بذات الركض وذات الحضن، كأنني أحاول إنهاء الحكاية بالطريقة التي تمنّيتها.

لكنها استقبلتني بالنظرة ذاتها…

نظرة باردة، مضطربة، خائفة قليلاً…

نظرة تقول إننا—كلتينا—ما زالت الذاكرة تسكننا،

وأن بعض الطفولة لا يشفى… بل يتحوّل إلى طبقة شفافة فوق أعيننا كلما رأينا من كنا عليه.

وأدركت حينها أنّ الإنسان لا يهرب من نسخته الأولى…

لا أنا هربت من الطفلة النارية في داخلي،

ولا لجين تخلّصت من ارتعاشتها حين رأتني.

نحن فقط تعلّمنا أن نلبس قفازات للكبار…

لكن أصابع الطفولة ما زالت تتحرك من تحتها.

لمى ابوالنجا/ كاتبة و أديبة من السعودية