حرب العملات .. صراع الكبار وأثمان الصغار بقلم :شحاته زكريا
في اللحظة التي يظن فيها العالم أن الصراعات تحسم فقط في ميادين القتال تدور خلف الكواليس حرب أكثر شراسة وقسوة سلاحها الأرقام وذخيرتها أسعار الفائدة. إن المشهد الراهن للصراع النقدي بين واشنطن وبكين لم يعد مجرد مناوشات تجارية عابرة بل هو إعادة صياغة قسرية لموازين القوى العالمية حيث يتحول الدولار واليوان إلى أدوات ضغط سياسي تتجاوز حدود الاقتصاد لتلامس عمق السيادة الوطنية للدول .. لقد اختارت واشنطن ومعها رياح الحمائية الجديدة أن تعيد الاعتبار لسطوة الدولار كأداة للسيطرة ليس فقط عبر فرض الرسوم الجمركية بل ومن خلال سياسة نقدية متشددة تجذب السيولة من أطراف الأرض نحو قلب النظام المالي الأمريكي. هذا التوحش الدولاري يضع الأسواق الناشئة في مأزق تاريخي فهي من جهة مدينة بعملة تزداد كلفة الحصول عليها يوما بعد يوم ، ومن جهة أخرى تجد نفسها مضطرة لمجاراة سباق الفائدة العالمي لترميم عملاتها المتهاوية مما يخنق فرص النمو المحلي ويدفع الفئات الهشة إلى حافة اليأس .. على المقلب الآخر لا تقف بكين موقف المتفرج بل تمارس نوعا من المقاومة النقدية الهادئة. إن محاولات الصين لتدويل اليوان وفك الارتباط تدريجيا بالنظام المالي الغربي ليست مجرد طموح اقتصادي بل هي محاولة لخلق مظلة بديلة لدول الجنوب العالمي. غير أن هذا الهروب الصيني يحمل في طياته مخاطر كبرى فإغراق الأسواق بمنتجات رخيصة ناتجة عن خفض قيمة اليوان يضع الصناعات الناشئة في دول مثل مصر وتركيا والبرازيل في مواجهة غير عادلة حيث تتبدد أحلام التصنيع المحلي أمام طوفان البضائع الصينية المدعومة نقديا .. إن الحقيقة المرة التي تتجاهلها التقارير الرسمية هي أن الأسواق الناشئة باتت اليوم منطقة الحريق في هذا الصراع العالمي. المواطن في هذه الدول لا يعنيه كثيرا من يجلس على عرش النظام المالي بقدر ما يعنيه ثبات رغيف الخبز وكلفة الدواء وهي أمور باتت مرتهنة بقرار يصدر من الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أو بنك الشعب في بكين. هذا الارتهان يثبت أن الاستقلال السياسي في القرن الحادي والعشرين بات وهما ما لم يرتكز على استقلال نقدي وقدرة على المناورة بين الأقطاب المتصارعة .. نحن لا نعيش مجرد أزمة تضخم عالمية بل نعيش مخاض ولادة نظام مالي ثنائي القطبية يمزق وحدة السوق العالمية ويفرض على الدول الصغيرة والناشئة أن تختار معسكرها بعناية. غير أن الدروس المستفادة من التاريخ تؤكد أن الرهان على قطب واحد هو انتحار استراتيجي وأن النجاة في هذا العصر تتطلب بناء مصدات داخلية تعتمد على تنويع الشركاء وتقليل الاعتماد على الديون الخارجية قبل أن تدهسنا أقدام العمالقة وهم يتصارعون على قمة الهرم. إنها رقصة الموت على حافة الاقتصاد العالمي حيث الصغار هم من يدفعون ثمن تذاكر الدخول وهم أيضا من يتحملون كلفة تحطم المسرح في نهاية العرض.
