في ظل التصعيد الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، وردود الفعل الإقليمية والدولية، برز خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في القمة العربية الإسلامية الطارئة كأحد أقوى الخطابات منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979. بالتوازي مع ذلك، اتخذت مصر خطوات عسكرية وأمنية غير مسبوقة، حيث دفعت بتعزيزات كبيرة إلى سيناء، في رسالة واضحة بأن التهجير القسري للفلسطينيين خط أحمر.
خطاب السيسي في القمة الطارئة — نبرة غير مسبوقة منذ عقود
جاء خطاب السيسي قويًا وحاسمًا، ليؤكد أن إسرائيل غير جادة في عملية السلام، وأن استمرار السياسات الحالية من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقود المنطقة إلى مواجهة مفتوحة. الرئيس المصري وصف ما يحدث بأنه «مغامرة بالسلام»، مشددًا على أن مصر قادرة على الدفاع عن أرضها وعن القضية الفلسطينية، مستعيدًا عبارته الشهيرة في أحد احتفالات أكتوبر: «عملناها مرة ونستطيع أن نفعلها 100 مرة».
خطاب السيسي لم يكن مجرد تعبير عن الموقف السياسي، بل حمل رسائل عسكرية وأمنية رصدتها المؤسسات الإسرائيلية بدقة، حيث كرر الرئيس كلمة «العدو» في خطابه، وهو ما قرأته أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية على أنه تغير نوعي في لهجة القاهرة.
التحركات العسكرية المصرية — تعزيزات شاملة في سيناء
ميدانيًا، دفعت مصر بتعزيزات عسكرية واسعة إلى شمال سيناء شملت وحدات من القوات البرية، دبابات، مدرعات، بطاريات دفاع جوي، وحدات حرب إلكترونية، وطائرات مقاتلة.
ورغم عدم إعلان القاهرة عن أعداد محددة، فإن تقارير محلية وإقليمية أكدت وجود انتشار واسع للجيش المصري في محاور استراتيجية بسيناء، في خطوة اعتبرها مراقبون «رسالة ردع» لإسرائيل.
محافظ شمال سيناء صرّح بأن «العدو قد يجد ما لا يسره»، بينما أشار وكيل سابق لجهاز المخابرات في مقابلة متلفزة قبل 48 ساعة إلى خطط عسكرية قد تكون جاهزة منذ عام 1979، ما يعكس حالة الاستعداد المصري.
إسرائيل تواصل اجتياح غزة — دمار واسع ومخططات للتهجير
من جانبها، صعّدت إسرائيل عملياتها العسكرية داخل قطاع غزة، حيث دخلت قوات برية وآليات مدرعة إلى عمق المدينة، في محاولة لإنهاء ما تبقى من البنية التحتية للقطاع.
تقرير الحلقة أشار إلى أن إسرائيل دمرت نحو 92% من مساحة غزة، وتسعى لاستكمال النسبة المتبقية البالغة 18%.
رغم الرواية الإسرائيلية عن تهجير 300 ألف فلسطيني، إلا أن التقديرات الميدانية تشير إلى نزوح نحو 67 ألف فقط، مع بقاء الغالبية رافضة للخروج من ديارها. الفلسطينيون يدركون أن النزوح يعني الدخول في مأساة إنسانية جديدة، خصوصًا بعد مشاهد استهداف العائلات عند مراكز توزيع المساعدات.
الكارثة الإنسانية في غزة — مجاعة مؤكدة ونقص في الإمدادات
تفاقم الوضع الإنساني في شمال غزة إلى حد وصوله رسميًا إلى حالة مجاعة، بحسب مراجعات شبكات دولية وتحذيرات الأمم المتحدة.
إغلاق معبر زيكيم أدى إلى انهيار سلاسل الإمداد، ما تسبب في نقص كارثي في الوقود والمياه والأدوية. تقارير ABC News في أغسطس 2025 أكدت أن أجزاء من غزة تعيش حالة مجاعة فعلية، مع خطر انتشارها إلى مناطق أوسع.
الأطفال والحوامل في مقدمة المتضررين من سوء التغذية، بينما تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين منذ أكتوبر 2023 حاجز 65 ألف شهيد، في أكبر حصيلة منذ عقود.
تقارير أممية ومحكمة العدل الدولية — اتهامات بارتكاب إبادة جماعية
محكمة العدل الدولية أصدرت عدة أوامر احترازية تلزم إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية في رفح وتسهيل دخول المساعدات، إلا أن إسرائيل لم تلتزم بهذه القرارات.
كما خلصت لجنة تحقيق أممية في سبتمبر 2025 إلى أن السلطات الإسرائيلية ترتكب «جريمة إبادة جماعية»، وهو ما أثار جدلاً واسعًا في المجتمع الدولي، حيث رفضت إسرائيل التقرير واعتبرته «منحازًا».
الاتحاد الأوروبي نشر التقرير رسميًا، ما زاد من عزلة إسرائيل الدولية، بينما تتصاعد الضغوط الحقوقية للمطالبة بمحاكمات ومساءلة قانونية.
الموقف المصري — التهجير خط أحمر
أعادت مصر التأكيد أكثر من مرة على رفضها المطلق لتهجير الفلسطينيين، سواء إلى سيناء أو الأردن.
الرئيس السيسي ووزير الخارجية سامح شكري صرحا بوضوح أن أي محاولة لفرض واقع جديد عبر التهجير مرفوضة تمامًا، وهو ما أعاد بعض الدول المترددة إلى الموقف العربي الموحد.
مصر عززت أيضًا من تحصيناتها على الحدود، وبنت دفاعات وقائية في رسالة واضحة بأنها لن تسمح بفرض أي حلول على حساب أراضيها.
المواقف الدولية — واشنطن، قطر، وتركيا
الولايات المتحدة واصلت دعمها السياسي والعسكري لإسرائيل، حيث زار وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي تل أبيب وأعلنا دعمًا «إلى ما لا نهاية».
في المقابل، تعرضت قطر لموقف حرج بعدما استهدفت الطائرات الإسرائيلية موقعًا داخل أراضيها، ما اعتبرته الدوحة «انتهاكًا للسيادة». ورغم وجود قاعدة العديد التي تضم 11 ألف جندي أمريكي و10 آلاف طائرة، لم تتدخل واشنطن، ما أثار تساؤلات حول جدوى الحماية الأمريكية.
تركيا بدورها حافظت على وجودها العسكري في قطر بموجب اتفاقية دفاعية موقعة عام 2015، لكن هذا الوجود ظل بلا فاعلية حقيقية خلال الأزمة.
نتنياهو والضغوط الداخلية — الرهائن والمظاهرات
على الصعيد الداخلي، يواجه نتنياهو ضغوطًا متزايدة من أسر الرهائن الإسرائيليين الذين يخشون تنفيذ حماس لتهديداتها بإعدام المحتجزين إذا اقتربت القوات من مواقعهم.
شهدت إسرائيل خلال الأيام الماضية تظاهرات متصاعدة ضد الحكومة، ومن المتوقع أن تتضاعف الاحتجاجات مع استمرار العمليات العسكرية وتصاعد أعداد القتلى.
مؤتمرات دولية مرتقبة — ملف حل الدولتين على الطاولة
من المقرر أن تبدأ فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر الجاري، حيث سيكون ملف «حل الدولتين» على رأس جدول الأعمال، بقيادة مشتركة من فرنسا والسعودية.
بريطانيا أعلنت على لسان رئيس وزرائها ستارمر تأجيل الاعتراف بدولة فلسطين لحين انتهاء زيارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى لندن، تفاديًا لأي خلاف دبلوماسي.
الموقف المصري كان حاضرًا بقوة في لقاءات السيسي مع زعماء دوليين، بينهم ملك إسبانيا وزوجته في زيارة رسمية للقاهرة، حيث أثنى السيسي على قرارات مدريد بوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل.
السيناريوهات المحتملة — حسم محدود أم حرب استنزاف؟
السيناريوهات أمام إسرائيل تتراوح بين:
حسم عسكري محدود: السيطرة على مناطق معينة داخل غزة وتقليص نفوذ حماس.
حرب استنزاف طويلة: قد تستمر سنوات، وهو ما يرفضه المجتمع الدولي، وقد يدفع لتوسيع رقعة المواجهة.
تصعيد إقليمي: في حال استفزاز مصر أو محاولة دفع الفلسطينيين عبر الحدود، وهو ما تعتبره القاهرة «ممنوعًا مطلقًا».
مصر على خط النار
يبقى الموقف المصري حاسمًا في هذه المرحلة. فبينما تواصل إسرائيل اجتياح غزة وسط أزمة إنسانية متفاقمة وضغوط دولية متزايدة، تضع القاهرة خطوطًا حمراء واضحة وتتحرك عسكريًا ودبلوماسيًا لمنع تكرار سيناريو التهجير.
المشهد إذن مفتوح على كل الاحتمالات: من تسويات سياسية دولية مرورًا بمؤتمرات أممية مرتقبة، وصولًا إلى احتمال انزلاق المنطقة نحو مواجهة إقليمية واسعة.
د. ماك شرقاوي الكاتب الصحفي
والمحلل السياسي المتخصص في الشأن الأميركي
رابط الحلقة:
