د. ماك شرقاوي يكتب: حرب باردة جديدة في القرن الأفريقي
مع تصاعد التنافس الدولي في منطقة القرن الأفريقي، يتزايد الحديث عن إمكانية نشوب “حرب باردة جديدة” في المنطقة. حيث إن القرن الأفريقي أصبح ساحة تنافس استراتيجي بين قوى دولية كبرى مثل الولايات المتحدة، الصين، وروسيا، إلى جانب بعض القوى الإقليمية مثل السعودية، الإمارات، تركيا، وإيران. هذا التنافس لا يختلف كثيرًا عن الحرب الباردة التقليدية من حيث الديناميات الجيوسياسية، ولكنه يتخذ أشكالًا جديدة تتناسب مع التحديات والفرص المعاصرة.
ملامح تشابه مع الحرب الباردة القديمة
التنافس بين القوى الكبرى
الولايات المتحدة تسعى إلى تعزيز هيمنتها التقليدية في المنطقة، التي تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال قواعدها العسكرية في جيبوتي ودعم الحكومات الحليفة. تهدف الولايات المتحدة إلى احتواء النفوذ الصيني والروسي في القرن الأفريقي.
الصين تسعى إلى تحقيق توسع اقتصادي وعسكري في المنطقة من خلال مبادرة الحزام والطريق، وتواجدها العسكري في جيبوتي، واستثماراتها الضخمة في البنية التحتية (الموانئ، الطرق، السكك الحديدية). الصين تسعى إلى تغيير المعادلة الجيوسياسية وإيجاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
روسيا تستفيد من عدم الاستقرار الإقليمي، وتسعى لتعزيز وجودها في المنطقة من خلال بيع الأسلحة، ودعم الحكومات المتحالفة معها، ومحاولة بناء قواعد عسكرية جديدة. روسيا تسعى إلى تحدي الهيمنة الغربية والتأكيد على نفوذها الجيوسياسي.
التحالفات الإقليمية المتغيرة
كما في الحرب الباردة التقليدية، تلعب الدول الإقليمية دورًا هامًا في التحالفات العالمية. فدول مثل إثيوبيا، السودان، الصومال، وجيبوتي تسعى إلى إقامة تحالفات مع القوى الكبرى بما يتماشى مع مصالحها الداخلية، ما يزيد من تعقيد المشهد الجيوسياسي.
الصراع غير المباشر (Proxy Conflicts)
القوى الكبرى تدعم في بعض الأحيان اللاعبين المحليين والجماعات المسلحة لزيادة نفوذها. على سبيل المثال، في اليمن والصومال، نجد قوى دولية وإقليمية تدعم أطرافًا معينة لتحقيق مصالحها، وهو ما يعيد للأذهان الحروب بالوكالة التي ميزت الحرب الباردة القديمة.
أبعاد الحرب الباردة الجديدة في القرن الأفريقي
أولاً: المنافسة الاقتصادية والتجارية
الصراع في القرن الأفريقي لم يعد مقتصرًا على النفوذ العسكري والسياسي فقط، بل يشمل أيضًا التنافس الاقتصادي. الصين تعتمد على الدبلوماسية الاقتصادية والاستثمار في البنية التحتية كوسيلة لتعزيز نفوذها. الولايات المتحدة تحاول الترويج لمبادرات بديلة للحزام والطريق من خلال تعزيز التجارة والاستثمار في الديمقراطيات الشريكة.
ثانياً: النفوذ العسكري المتزايد
كما في الحرب الباردة التقليدية، فإن توسيع القواعد العسكرية يعد مؤشرًا واضحًا على تصاعد التنافس بين القوى الكبرى. جيبوتي، على سبيل المثال، تعد الآن أكثر منطقة مزدحمة بالقواعد العسكرية في العالم، حيث تستضيف قوات من الولايات المتحدة، الصين، فرنسا، اليابان، وإيطاليا. الوجود العسكري المتزايد يمكن أن يؤدي إلى مواجهات غير مباشرة بين هذه القوى.
ثالثاً: التكنولوجيا والتنافس الرقمي
إضافة إلى الصراع الجغرافي والعسكري، فإن هناك بعدًا جديدًا في هذه الحرب الباردة يتمثل في التكنولوجيا والتنافس الرقمي. الصين تقدم تقنيات الاتصالات والبنية التحتية الرقمية لدول القرن الأفريقي من خلال شركات مثل هواوي، في حين تحاول الولايات المتحدة الحد من النفوذ التكنولوجي الصيني عن طريق تحذير الدول من الاعتماد على الشركات الصينية لأسباب تتعلق بالأمن القومي.
3. العوامل التي قد تؤدي إلى تصاعد “الحرب الباردة الجديدة” في القرن الأفريقي
عدم الاستقرار السياسي الداخلي
المنطقة تعاني من نزاعات داخلية طويلة الأمد مثل الحرب الأهلية في إثيوبيا (تيغراي)، والنزاعات في الصومال واليمن. القوى الكبرى تستفيد من هذا الفراغ السياسي لتعزيز نفوذها، لكن في نفس الوقت، هذه النزاعات تزيد من عدم الاستقرار وتجعل المنطقة أكثر عرضة للتدخلات الخارجية.
أهمية البحر الأحمر والممرات البحرية
كما ذكر سابقًا، البحر الأحمر يعد ممرًا حيويًا للتجارة العالمية والنفط. القوى الكبرى تتنافس على السيطرة على الموانئ والممرات البحرية لضمان تدفق التجارة والموارد. هذا التنافس قد يؤدي إلى مواجهة عسكرية غير مباشرة بين القوى الكبرى إذا تصاعدت التوترات.
التأثيرات المناخية والجفاف
التغيرات المناخية مثل الجفاف والنقص في الموارد الطبيعية تؤدي إلى زيادة التوترات بين دول المنطقة، وتفتح المجال لتدخلات خارجية. القوى الكبرى قد تستغل هذه الأزمات لدعم أو الضغط على حكومات معينة بما يتماشى مع مصالحها.
4. هل نحن أمام حرب باردة جديدة؟
على الرغم من أن التوترات الحالية في القرن الأفريقي تتشابه مع الحرب الباردة القديمة، فإن السيناريو المعاصر يختلف في بعض الجوانب:
التداخل بين الاقتصاد والسياسة: بينما كانت الحرب الباردة التقليدية تعتمد بشكل كبير على القوة العسكرية والأيديولوجية، الحرب الباردة الجديدة تعتمد أكثر على الدبلوماسية الاقتصادية والتكنولوجيا، كما هو الحال مع مبادرة الصين “الحزام والطريق”.
النزاعات الإقليمية بالوكالة: التنافس الحالي يشمل دعم أطراف داخلية في النزاعات المحلية كما في اليمن والصومال، مما يعزز الصراع غير المباشر.
التكنولوجيا: أحد الفوارق البارزة هو التنافس التكنولوجي، حيث تلعب التكنولوجيا الرقمية والبنية التحتية الرقمية دورًا كبيرًا في تحديد النفوذ العالمي.
الخلاصة
نعم، هناك العديد من المؤشرات التي تشير إلى أننا أمام حرب باردة جديدة في منطقة القرن الأفريقي، لكن هذه الحرب تختلف في أدواتها وأساليبها عن الحرب الباردة التقليدية. التنافس الحالي يشمل جوانب اقتصادية، عسكرية، وتكنولوجية، ويشهد نزاعات بالوكالة بين القوى الكبرى. ومع استمرار التدخلات الخارجية وارتفاع التوترات الإقليمية، فإن المنطقة قد تصبح بؤرة صراع أكثر تعقيدًا بين القوى الكبرى، مما يستدعي توازنًا دقيقًا من الدول الإقليمية للحفاظ على استقرارها وسيادتها.
من نيويورك
د .ماك شرقاوي الكاتب الصحفي
والمحلل السياسي المتخصص في الشأن الأميركي