رجا الأشقر : رَاقِصَة
كَفَراشَةٍ تَطِيرُ مِنْ دونِ جَنَاحْ ..
كَغَزالَةٍ شَارِدَةٍ في البِطاحْ ..
كَخَمْرَةٍ تُغازِلُ غِوى الأَقْداحْ ..
خَفيفَةٌ كَرِيشَةْ ..
مُضِيْئَةٌ كَعُنقودِ عِنَبٍ في صَدْرِ عَريشَةْ ..
وَشَهِيَّةٌ كَطَبَقِ قَريشَةْ ..
في شَفافِيَةٍ الثِّيابِ ما يَسِيلُ لَهُ اللُّعابُ ؛ وإِنْ كانَ في نَزَقُ عُرِيِّها ما يَخدِشُ الآدابَ، ويَسْتَحْضِرُ مُلوكَ الإِنسِ والجِنِّ وَقِطْعَانَ الذِّئَابْ ..
وَفي تَناغُمِ الحَرَكَةِ ما يُزِيغُ النَّظَر ، ويُدَغْدِغُ الحَواسَ ، وَيَقْطَعُ الأَنفاسْ ..
وأنتَ تُراقِبُ سُرْعَةَ نَقَلاتِها تَخالُ نَفسَكَ إزَاءَ دولاب عِملاقٍ في مَدينَةٍ لِلمَلاهي ؛ فلا يكادُ نَظَرُكَ يَسْتَقِرُّ على مِقْعَدٍ مُثَبَّتٍ فيهِ ، حَتّى يَنْخَطِفَ إلى آخَرَ أَبَعدَ مِنهُ ؛ لِتُداوِمَ على هذا المنوالِ إلى حِينِ سُكونِ الحَركَةِ المَكُّوكِيَّةِ ، وَزوالِ الخُفوقْ .. وقَدْ تَظَلُّ مُمْسِكاً بِزِمامِ الاُمورِ إلى وَقْتٍ تُبالِغُ هِيَ فيهِ بِالغِنْجِ والدَّلالِ وفُتُبْرِزُ بِوَقاحَةٍ ما خَفِيَ مِنْ مَفاتِنَ مَخبوءَةٍ تَحْتَ الغِلالَةِ ؛ فَتَتداعى قُوَّتُكَ ، وينفَذُ صَبْرُكَ ، وَتَكْفُرُ بما خَفَّ مِنْ ثِيابٍ تَرتَديها ؛ لاعِناً سُوءَ حَظٍّ لازَمَكَ كُلَّ هَذِهِ السَّنواتِ ، ونِعْمَةً حَظِيَ بِها سِواكْ ..
أمّا إذا قُيِّدَ لكَ المَزيدُ مِنَ القَهْرِ والعَذابِ ؛ فَيكونُ عِندها في الإِقْتِرابِ مِنكَ ؛ سِيَّما إذا ما آنَسَتْ في وَجْهِكَ وسامَةً ، أَو في ثِيابِكَ أَناقَةً تُنبِيءُ بِيُسرٍ ؛ فَقَدْ تَخُصُّكَ بِغَمْزَةٍ مِنْ عَينٍ كَحيلَةٍ ، أَو بِلَمْسَةٍ مِنْ أَصابِعَ جميلَةٍ ، أوْ بِإشارَةٍ تَتْرُكُ لكَ أمْرَ تفسِيرِها ،أَوْ بِانْحِناءَةٍ تَسبُرُ فيها أعْوارَ الصَّدْرِ، وتَنشَقُ عَبرَها حَلالَ العِطرِ ، ثُمَّ تودِعُكَ حُرْقَةً تُنَغِّصُ عليكَ فَرحاً تَنتَظِرُهُ ؛ وتَرحَلُ بَعدَ وَقْتٍ لَمْ يَطُلْ أوانُهُ غَيرَ عابِئَةٍ بِما خَلَّفَتْهْ ..
وبَينَ نِعْمَةٍ ساقَتْها سَهْرَةٌ عامِرَةٌ ، وَخَيالاتٍ رَسَمَتْها مَشاهِدٌ سَافِرَةٌ؛ تُلَمْلِمُ ذاتَكَ بَعدَ مَضِيِّ ساعاتٍ، وقَد بَلَّلَكَ عَرَقٌ ما كُنتَ لِتَصْرِفَهُ طَوالَ شُهورٍ مِنَ التَّعبِ ، واسْتَبَدَّ بِمَفاصِلِكَ انْحِلالٌ يَعْجَزُ أيُّ مَرَضٍ عَنِ الإتْيانِ بِهِ ، وأصابَتْكَ حالَةٌ مِنَ انْعِدامِ الوَزْنِ لمْ يَسبِقْ لكَ أنْ عَرَفْتَها حَتّى في عِزِّ الازمَاتْ ..
يبقى أنَّ في البالِ صُوَراً جَمَعْتها في لَحْظَةِ كَيفٍ ، وتَستَعِيدها كُلَّما داعَبَ خَيالَكَ طَيفُ أُنثى عابِرَةٍ ترى فيهِ وَجْهَ راقِصَتِكَ ، أَو دَغْدَغَ أنْفَكَ عِطْرٌ نفَّاذٌ يُشْبِهُ عِطرَها، أو وَقَعَ نَظَرُكَ صُدفَةً على ثِيابٍ فيها بَعضٌ مِنْ جُرْأَةِ ثَوبِها ..
الرَّقصُ يا سَادَةُ فَنٌّ رَفيعٌ ، يليقُ بِثَورَةِ الأَجْسادِ الأُنْثَوِيَّةِ، فَيَسْكُنُ القُلوبَ العَاشِقَةَ ، قَبْلَ أنْ تُدْرِكَ أبْعادَهُ النُّفوسُ الوَاثِقَةُ والعُقولُ الرَّاقِيَةْ .
رجا الأشقر كاتب وشاعر