سكت زياد… فانكسر الوطن .. بقلم الناقد السينمائي شربل الغاوي
ليس موت زياد الرحباني مجرّد خبر… بل زلزال شعوري، وانطفاءٌ يشبه انقطاع التيار عن مدينةٍ لا تعرف سوى النور.
هو لم يكن فنانًا فحسب… بل كونٌ مستقل، تدور في فلكه الفوضى العبقريّة، والسخرية التي تقطر وعيًا، والحزن الذي يضحك… كي لا نبكي.
زياد، ذاك الذي لم يتعلّم الموسيقى… بل تعلّم الصمت، وتمرّد عليه.
ذاك الذي لم يقرأ الشعر… بل قرأ وجه أمّه، فسكب نغمةً تُشبه عينيها، وصوتًا لا يليق إلا بها.
وُلد في حضن فيروز، لكنه ما اختار التغريد، بل الصراخ. ما غازل النور، بل شتم العتمة. ما صادق المجد، بل عادى الزيف… فصار وجهًا للوجع، وصوتًا للحقيقة حين تختنق.
وحده زياد، من حوّل البيانو إلى مقصلة، والمسرح إلى محكمة، والكلمة إلى رصاصة.
كان يغنّي كمن يفتح جرحًا… يضحك كمن يبكي، يرقص فوق رمادنا، لا ليهزّ الأكتاف، بل ليوقظ الأرواح النائمة.
لم يطلب تصفيقًا، ولم ينتظر مديحًا. كتب كي ينجو من غضبه، لحّن ليهدّئ صخبه، ومثّل كي يضحك على وجعه قبل أن نضحك على وجوهنا في مرآته.
“بالنسبة لبُكرا شو؟”
بالنسبة لبُكرا يا زياد… نام الغاضب، وسكت الحرف العنيد.
بالنسبة لبُكرا… بكت مقاعد مسرح بيكاديللي على صوته، وتحسّست بيروت أرصفتها… باحثة عن ظلاله.
لن تجده عند بوّابة الإذاعة، ولا في استوديو منسيّ، ولا بين أوراقٍ مغبرّة في أرشيف مهجور…
لأن زياد لم يكن يسكن الأماكن… بل سكننا.
كان يرى الغد من شرفة العقل، ويعود ليقول:
“ما تغيّر شي… نحنا بعدنا محلّنا.”
كأنّه عاش في المستقبل، ثم عاد إلينا بجرحٍ قديم. كأنّه نطق بالنبؤة، ولم يصدّقه أحد.
كم مرّة فضح عُريهم فابتسموا بخجل المتورّطين؟
جلدهم بالسخرية، فهتفوا باسمه…
وجلدنا بالمرآة، فبكينا.
وحده حوّل الخيبة إلى نشيد، والضياع إلى نوتة، واليأس إلى فنّ… يُدرّس في الصمت.
من بعدك، يا زياد، من يكتب عن الحشيشة بلا خوف؟
من يقول لنا إن الله يحبّ الفقراء… ولا يتراجع؟
من يعزف نشرات الأخبار من دون نشرة؟
من يضع الإصبع على الجرح، ويبتسم كمن يعرف أن الألم طريق النجاة؟
سلامًا عليك أيها المنفيّ في حضن أمّك،
يا العائد من الحروب دون نصر… لكن بأغنية.
يا الثائر بلا راية، ولا حزب، ولا ضوضاء…
يا المشتبك مع الحياة، حتى آخر شهقة لحن.
ها قد مات الصوت الذي لم ينكسر،
وماتت الضحكة التي كانت تبكينا أكثر من كل النحيب،
ومات الرجاء بأن الفنّ قد يُنقذ ما تبقّى منّا… أو يعيد ترتيب هذا الخراب.
وتْسكّرِت القصة…
سكت المسرح، وغفِي البيانو،
وسكتت بيروت… لا “على خجل”، بل على وجعٍ لا صوت له.
