شحاتة زكريا يكتب:أوروبا بين ظل واشنطن وضوء الاستقلال.. معركة العقول لا المصالح
كان الغرب لعقود طويلة يبدو كجسدٍ واحدٍ بعقل أمريكي وقلب أوروبي. واشنطن تقود ولندن وباريس وبرلين تُنفّذ وتُبرّر وتدفع الثمن. هكذا صُنعت صورة “التحالف الغربي” الذي وُلد من رحم الحرب العالمية الثانية ، وامتد ليكون درعا سياسيا واقتصاديا وعسكريا يحكم العالم. لكن العالم تغيّر وما عاد الحليف حليفا كما كان ولا الشراكة كما وُصفت يوما استراتيجية إلا على الورق.
اليوم لا يبدو أن الولايات المتحدة وأوروبا تسيران في الاتجاه نفسه. فبعد سنوات من الانقياد خلف الخطط الأمريكية — من أفغانستان إلى العراق ، ومن ليبيا إلى أوكرانيا — بدأ المزاج الأوروبي يتبدّل وتحول السؤال من كيف نساند واشنطن؟ إلى كم خسرنا بسببها؟ . أوروبا اكتشفت متأخرة أن التحالف الذي تغنّت به طويلا كان في جوهره مشروعًا أمريكيًا بواجهة غربية.
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا ظهر الشرخ بوضوح: واشنطن تضع الخطط وتكسب النفوذ وأوروبا تدفع الفاتورة من أمنها وطاقتها واقتصادها. حين انقطعت الإمدادات الروسية من الغاز لم تتأثر الولايات المتحدة بل باعت الغاز المسال للأوروبيين بأسعار مضاعفة. وحين تراجعت أسواق القارة العجوز تحت وطأة العقوبات كانت الشركات الأمريكية تزدهر. ومع كل ذلك، ظلت واشنطن تخاطب شركاءها في أوروبا بلغة الأستاذ إلى تلاميذه ، لا الندّ إلى الندّ.
لكن المفارقة أن القارة العجوز بدأت الآن تدرك أن المظلة الأمريكية لم تعد تحميها كما كانت. فالمعركة في أوكرانيا لم تُضعف روسيا كما توقعت أوروبا بل كشفت حدود النفوذ الأمريكي نفسه. وما بين حرب لا نهاية لها وتضخم ينهش اقتصادات القارة وتراجع في ثقة الشعوب بحكوماتها أصبح الشك في جدوى التحالف مع واشنطن أمرا مشروعا حتى في العواصم التي كانت تُقسم بولائها للأطلسي.
وفي المقابل تتعامل أمريكا مع أوروبا الآن بمنطق “التفويض”. فهي لا تريد أن تخوض الحرب بنفسها ، لكنها تُورِّط شركاءها في حروب بالوكالة. ما يجري اليوم في أوكرانيا هو النموذج الأوضح: حربٌ أوروبية على الأرض الروسية لكن بقرار أمريكي وتمويل غربي وتكلفة إنسانية واقتصادية أوروبية بحتة. إنها صيغة جديدة من التحالف يمكن تسميتها بـالشراكة المتقاطعة — لا تحالف ولا قطيعة بل تقاطع مصالح مؤقتة سرعان ما ينقلب أحد طرفيها على الآخر حين تتبدل الظروف.
ورغم ذلك لا يبدو أن أوروبا مستعدة بعد للمواجهة. فهي ما زالت ممزقة بين رغبتها في الاستقلال وبين خوفها من فقدان الحماية الأمريكية. تحاول بناء جيش أوروبي مشترك وتبحث عن سياسة خارجية أكثر توازنا لكنها لم تصل بعد إلى مستوى القرار الحرّ. ومع كل أزمة جديدة — من غزة إلى تايوان — تكتشف القارة أن واشنطن ما زالت تمسك بخيوط اللعبة الكبرى.
غير أن التحول الأعمق يحدث في وعي الشعوب. فقد بدأت المجتمعات الأوروبية تسأل: لماذا نعيش أزمات لم نصنعها؟ ولماذا نحارب خصوما لا يهددوننا مباشرة؟ في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا تتصاعد الأصوات التي تطالب بالعودة إلى دبلوماسية المصالح بدل الاصطفاف الأعمى خلف السياسات الأمريكية. حتى في بريطانيا التي كانت الحليف الأكثر التزامًا، بدأت نغمة الاستقلال عن واشنطن تظهر في دوائر النخبة السياسية والإعلامية.
العالم اليوم لا يعيش حربا باردة جديدة بقدر ما يشهد تفككا بطيئًا في بنية الهيمنة القديمة. أوروبا لم تعد الابن المطيع وأمريكا لم تعد الزعيم الذي لا يُسأل بينهما مساحة رمادية تزداد اتساعا كل يوم عنوانها التحالف في زمن الشك. أوروبا تبحث عن دور جديد يوازن بين التبعية والاستقلال بينما واشنطن تحاول إعادة تعريف علاقتها بحلفائها من موقع القوة، لكنها تكتشف تدريجيا أن زمن الإملاء انتهى.
ربما لا تنفصم العلاقة بين الطرفين غدا ولكنها بالتأكيد لم تعد كما كانت. فالعالم الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية يتفكك الآن على مهل والقيم التي رُفعت باسمها الحروب لم تعد تقنع أحدا. ما تبقى من “المعسكر الغربي” ليس سوى ظلّ لتحالف قديم يتقاطع لا يتكامل يتفق على العناوين ويختلف في التفاصيل ، ويتحدث عن القيم بينما يتصارع على المصالح.
إنها لحظة فاصلة لا لأوروبا وحدها بل للنظام الدولي بأسره. فإذا اختارت أوروبا أن تظلّ تابعة ستدفع ثمن التبعية كما دفعت من قبل. أمّا إذا قررت أن تفكر كقوة مستقلة فربما يكون ذلك بداية ولادة الغرب من جديد — لكن هذه المرة بعقل أوروبي لا بأوامر تأتي من وراء الأطلسي.
بقلم: شحاتة زكريا
