شحاتة زكريا يكتب:برد بلا حدود وحصار بلا نهاية.. فصول الحرب في غزة
لا يحتاج الشتاء إلى كثير من الوقت ليكشف هشاشة الأماكن لكنه في غزة لا يفضح الجدران بل يعرّي العالم. فحين تهطل الأمطار فوق خيام ممزقة وبيوتٍ اختفت تحت الركام لا يصبح الطقس فصلا من فصول السنة ، بل فصلا من فصول الحرب. ينفذ البرد إلى أجساد الصغار كرصاصة صامتة ويجرّح الهواءُ المار فوق الأنقاض صدور كبار لم يعد أمامهم إلا الاحتمال.
في غزة لا يأتي الشتاء وحيدا؛ بل يأتي محملا بكل ما تركته الحرب معلقا في السماء: دخان لم يتبدّد بعد وغبار أبنية لم يزح بعد وذاكرة مثقلة بصور لا ينبغي لبشرٍ أن يراها. وهناك وسط هذا الخراب يعيش الناس فصلا لا يشبه فصول الأرض: فصل تختلط فيه الطبيعة بالجريمة والبرد بالحصار وصرخات الأطفال بصمت العالم.
العالم كلّه يعرف المشهد: طوابير طويلة تبحث عن لقمة وجموع بشرية تنتظر شاحنة مساعدات لا تكفي حتى نصف الحي ووجوه صغيرة تغيّرت ملامحها لأن الخوف صار أكبر من العمر. هذا المشهد لم يعد خبرا عابرا ولا مأساة تتكرر على الشاشات إنه اختبار أخلاقي هائل يسقط فيه الكثيرون من الدول إلى المؤسسات إلى العواصم التي لا ترى إلا ما يناسب مصالحها.
ولعل ما يفاقم قسوة الصورة أن الحرب لم تتوقف وأن دخول الشتاء لم يُبدّل حسابات القوة. فالقصف لا يعرف الفصول والقرارات العسكرية لا تنصت لصوت الريح والسياسات الكبرى لا ترى البرد بل ترى الخرائط. وبينما تُدفَع غزة نحو أقسى فصول حياتها يكتفي العالم بترديد الشعارات ذاتها: جهود لوقف إطلاق النار ، محادثات ، مقترحات ، مساع دبلوماسية ، لكنّ الأطفال الذين ينامون على الأرض لا يسمعون هذه الكلمات… يسمعون الريح.
إن الخوف الأكبر الآن ليس في استمرار الحرب فقط بل في ما يُحاك لغزة تحت طاولة الكلام. هناك خرائط تُراجع من جديد ومقترحات لإعادة رسم الإدارة والسيطرة،ط ومشاريع تتظاهر بأنها “خطط سلام” بينما هي في حقيقتها محاولات انتزاع ما بقي من إرادة الفلسطينيين. بعض الأطروحات المتداولة في غرف مغلقة لا تتحدث عن وقف إطلاق النار بل عن إعادة هندسة غزة سياسيا وديموغرافيا وكأن البشر أرقام يُعاد توزيعها.
على الأرض لا يحتاج أهل غزة إلى تحليل ليعرفوا أن هناك ما هو أخطر من الحرب: هناك رغبة في جعل الحياة نفسها مستحيلة. فحين يجتمع الحصار مع الجوع ويُضاف إليهما الشتاء تصبح معادلة البقاء أكبر من قدرة الإنسان. ومع ذلك ما زال الغزيون يثبتون أن الإنسان ليس مجرد معادلة. في كل حي مدمر وفي كل طريق بلا سقف وفي كل مخيم غارق في المطر هناك من يقف ويرفع صوت الحياة ولو كان منخفضًا.
وهذا هو سر غزة الذي لم يفهمه العالم بعد: لم تنتصر يوما لأنها الأقوى بل لأنها لم ترفع الراية البيضاء قط. وحين تتحدث عن الصمود هنا فليس الحديث عن شعارات تُكتب على الحيطان بل عن واقع يراه الجميع: أم تطعم طفلها نصف قطعة خبز وتبتسم طبيب يعمل تحت الضوء الخافت لآخر بطارية شاب يرفع حجارة الأنقاض عن باب بيتٍ كان بالأمس منزلًا كاملا. هذا الصمود لا يحتاج إلى خطاب سياسي ليشرحه يكفي أن ترى الناس.
لكن الحقيقة التي لا يريد العالم الاعتراف بها أن غزة ليست ساحة حرب فقط بل ساحة اختبار. اختبار لإنسانيتنا وقدرتنا على رؤية الآخر واستعدادنا للدفاع عن الحق حتى لو كان بعيدا عن حدودنا. ومع ذلك ما زالت بعض العواصم تتعامل مع ما يجري بمنطق الحسابات: كم سيكلف هذا الموقف؟ وكيف سيؤثر على العلاقات؟ وكم سيحدث من ضجيجٍ سياسي؟ وكأن الحياة تُقاس بأرقام ، لا بقلوب تتجمد على أبواب الخيام.
اليوم لم يعد السؤال: متى سيتوقف إطلاق النار؟ بل: هل سيتوقف قبل أن يتحول جيل كامل إلى ذكرى؟ وهل يمكن أن يستمر العالم في تبرير صمته بينما يموت أطفال لا يملكون إلا البطانيات المُبللة وعيونهم المفتوحة على العاصفة؟
ومع ذلك وبرغم قتامة الصورة هناك مشهد واحد يغير كل شيء: مشهد الناس الذين يرفضون السقوط. حين ترى طفلا يضحك رغم البرد أو امرأة تجمع الحطب رغم الخوف أو شيخا يفتح باب المخيم ليعطي آخر ما يملك لجاره تدرك أن غزة لا تنتظر رحمة العالم بل تصنع رحمتها بنفسها.
الشتاء سيعبر. لكن غزة لن تنسى من وقف معها ومن عبر من فوقها. وستبقى قصة هذا الشتاء تحديدا—شتاء المطر والحصار والبرد—علامة على ما تبقى من ضمير في عالم مزدحم بالقوة وقليل بالعدالة.
وفي النهاية لا تحتاج غزة لمن يتحدث عنها بل لمن يقف معها. لا لمن يكتب عنها بل لمن يعترف بأن ما يحدث ليس “نزاعًا” بل مأساة إنسانية تُكتب فصولها الآن تحت المطر.
وغزة… رغم كل شيء… ما زالت تقف.
