شحاتة زكريا يكتب:حين يتحدث الجرح باسم العالم.. من منصة الأمم إلى وجدان البشرية
منذ أن تأسست الأمم المتحدة كان يُفترض أن تكون منبرا للعدالة الدولية وميزانا أخلاقيا يعلو فوق الحسابات الضيقة للقوة والنفوذ لكن المشهد الذي تابعناه مؤخرا حين صعد بنيامين نتنياهو إلى منصة المنظمة الدولية كان صادما على أكثر من مستوى. ليس فقط لأن الكلمات التي ألقاها لم تحمل سوى استعلاء وإنكار للحقوق ، بل لأن مجرد إتاحة تلك المنصة له بدا وكأن العالم يُجبر على الإصغاء إلى صوت يرمز للاحتلال والحصار والإبادة.
إن ما جرى لا يتعلق بالسياسة وحدها بل بامتحان حقيقي لضمير البشرية. فالمنظمة التي قامت على أنقاض الحرب العالمية الثانية وكان شعارها الأول ألا يتكرر الخراب ، بدت وكأنها تُشرعن للخراب ذاته حين تمنح الميكروفون لشخص يُجسّد في سياساته معنى التنكر لقرارات الشرعية الدولية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. هذا التناقض الفجّ يطرح سؤالا أكبر: هل تحولت الأمم المتحدة من مظلة للحوار إلى مسرح لعرض القوة مهما كانت مُلطخة بالدماء؟
الخطير في مشهد نتنياهو على منصة الأمم المتحدة أنه لم يكن حدثا بروتوكوليا عابرا بل هو رسالة إلى الشعوب المقهورة بأن القانون الدولي بلا أنياب ، وأن الصوت الفلسطيني مهما ارتفع فلن يُسمع إذا لم يكن خلفه ميزان قوى يفرض الإصغاء. تلك الرسالة إن تُركت بلا رد ستُغذي اليأس وسيكبر جرح المنطقة أكثر مما يحتمل العالم.
لكن ثمة جانب آخر من الصورة لا يقل أهمية وهو أن كلمات نتنياهو لم تمر مرور الكرام. ملايين حول العالم شاهدوا المنصة لكنهم سمعوا ما بين السطور أكثر مما سمعوا الحروف المنطوقة. رأوا في خطابه إنكارا للحقائق ورأوا في وقوفه هناك إهانة لآلام الفلسطينيين وبهذا المعنى فإن المنبر الأممي تحوّل – من حيث لم يرد أصحابه – إلى مرآة كشفت زيف السردية الإسرائيلية أمام الرأي العام.
اللافت أن قوة الخطاب المضاد لم تأتِ من مقعد رسمي أو منصة موازية بل جاءت من الشارع العالمي من ساحات التظاهر في العواصم من صفحات الصحف التي تجرأت على طرح أسئلة محرجة ومن وعي متنام لدى جيل لم يعد يسلم بما يعرض عليه عبر الإعلام التقليدي. هذا الجيل بات يقرأ الصورة بعيون مختلفة ، ويعرف أن الكاميرا التي تنقل خطابا رسميا تستطيع أيضا أن توثق مشهدا لطفل تحت الأنقاض في غزة أو أمّ تبكي شهيدها على أبواب مستشفى بلا دواء.
ربما لم يعد الرهان اليوم على الأمم المتحدة كما صُممت في الأربعينات بل على الضمير الإنساني الذي لم يُصادر بعد. فحين يعجز القانون عن حماية الضعفاء تظل الكلمة الحرة والصورة الصادقة والذاكرة الجمعية للشعوب سلاحا في وجه الاستبداد. واللافت أن قوة هذه الأسلحة الرمزية أحيانا تفوق ترسانة الجيوش لأنها تعيد صياغة الوعي وتضع حائط صد أمام محاولات التزييف.
من هنا يمكن القول إن لحظة نتنياهو على منصة الأمم المتحدة كانت امتحانا مزدوجا: امتحانا للأمم المتحدة التي كشفت عجزها وامتحانا للبشرية التي أثبتت في شوارعها وساحاتها أنها لم تفقد القدرة على الغضب. وإذا كان ثمة أمل فهو في أن يتحول هذا الغضب إلى وعي منظم وإلى ضغط متواصل يفرض على المنظومة الدولية إعادة النظر في معاييرها وممارساتها.
فالقضية ليست فقط أن مجرم حرب وقف ليلقي خطابا بل أن العالم كله شاهد وسمع وبالتالي أصبح شريكا في مسؤولية الرد. الصمت لم يعد خيارا بريئا والتطبيع مع الظلم لم يعد مجرد سياسة بل صار مشاركة في الجريمة. ولعل أخطر ما يواجه العالم اليوم ليس وحشية الاحتلال بقدر ما هو التواطؤ بالصمت.
وفي النهاية يظل السؤال مفتوحا: هل يمكن أن تستعيد الأمم المتحدة روحها الأولى وتعود إلى كونها ضميرا عالميا حيا أم أننا أمام مؤسسة شاخت وتُستخدم لتجميل وجه القوة لا لردعها؟ الإجابة لن تأتي من قاعات نيويورك وحدها بل من كل شارع يرفع لافتة ومن كل قلم يكتب كلمة حق ومن كل إنسان يرفض أن يُهان وعيه بمشهد سفاح يطل من على منصة كان يجب أن تظل مقدسة.
بهذا المعنى فإن خطاب نتنياهو لم يكن انتصارا كما أراد أن يصوره بل كان مرآةً عاكسة أظهرت بجلاء أن الحق لا يُمحى حتى لو جلس على المنصة من يحاول إنكاره. وربما هنا يكمن المعنى الأعمق: أن الجرح الفلسطيني مهما طال النزيف سيظل يتحدث باسم العالم الحر وسيظل يذكر بأن العدالة لا تموت وإن تأخرت.
