شحاتة زكريا يكتب: أمريكا والنظام الدولي.. إلى أين؟
النظام الدولي اليوم يبدو أشبه بآلة صدئة تتهاوى أجزاؤها الواحدة تلو الأخرى ، غير قادرة على مواجهة تحديات عالم يزداد تعقيدا يوما بعد يوم . على رأس هذه الآلة تقف الولايات المتحدة الأمريكية ، القوة العظمى التي قادت تشكيل هذا النظام منذ الحرب العالمية الثانية ، لكنها باتت اليوم وعلى نحو متناقض واحدة من أبرز أسباب اختلاله.
الهيمنة الأمريكية التي امتدت على مدى عقود كانت مزيجا من القوة العسكرية، والتأثير الاقتصادي، والهيمنة الثقافية. لكنها كما هو الحال مع كل إمبراطورية عبر التاريخ حملت في داخلها بذور تآكلها. فعندما تتحول القوة إلى أداة لإخضاع الآخرين بدلا من التعاون ، وعندما يُقدم المصلحة الذاتية على المصلحة الجماعية ، يصبح النظام الذي يعتمد على هذه القوة في حالة هشاشة.
أبرز تجليات هذا الاختلال يمكن رؤيتها في كيفية تعامل أمريكا مع المؤسسات الدولية التي ساهمت في إنشائها. المحكمة الجنائية الدولية مثال واضح فهي إحدى أدوات العدالة العالمية التي كان يُفترض أن تسهم في محاسبة مرتكبي الجرائم الكبرى لكنها أصبحت في نظر السياسيين الأمريكيين تهديدا لمصالحهم وحلفائهم. ما كشف عنه السيناتور ليندسي جراهام من تهديد حلفاء بلاده في حال تعاونهم مع المحكمة لاعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليس مجرد تصريحات طائشة بل دليل على أزمة أعمق في المنظومة الدولية. هذه الأزمة تعكس ازدواجية معايير تُضعف من شرعية النظام نفسه.
القضية ليست فقط في الهيمنة الأمريكية بل في غياب رؤية عالمية تعالج الأزمات المتفاقمة: تغير المناخ الذي يهدد بقاء البشرية تصاعد النزاعات المسلحة ، الديون العالمية التي تخنق الاقتصادات النامية والمتقدمة على حد سواء وانعدام العدالة الاقتصادية الذي يتركز فيه ثراء العالم في أيدي قلة بينما يعاني أغلب سكان الكوكب من الفقر.
ما يزيد الأمور تعقيدا هو أن النظام الدولي الحالي لا يعكس حقائق الجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين. مجلس الأمن على سبيل المثا ل، لا يزال يعمل بمنطق القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، متجاهلا صعود قوى جديدة كالصين والهند وألمانيا ، ومتجاهلا تطلعات الدول النامية التي تشكل أغلبية سكان العالم.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل نحن بحاجة إلى نظام دولي جديد؟ الإجابة ربما تكون واضحة من حيث المبدأ، لكن الطريق إليها مليء بالعوائق. أي نظام دولي جديد يجب أن يكون أكثر عدالة وتمثيلا وأقل هيمنة من القوى الكبرى لكن تحقيق ذلك يعني أن القوى الحالية التي تستفيد من النظام القديم ستواجه هذا التحول بمقاومة شديدة.
في نهاية المطاف يبدو أن العالم يقف عند مفترق طرق. فإما أن يستمر النظام الحالي بتناقضاته وصراعاته، ما يهدد بمزيد من الفوضى وعدم الاستقرار ، أو أن تتضافر الجهود لإعادة تشكيل نظام عالمي جديد يضع مصلحة البشرية ككل فوق أي اعتبار. لكن هذا التحول لن يحدث إلا إذا استطاعت القوى الدولية أن تتحرر من قيود الأنانية القومية وتسعى لخلق عالم أكثر توازنًا وإنصافًا.
ربما يكون التحدي الأكبر أمامنا الآن هو تحويل هذه الرؤية من مجرد طموح نظري إلى واقع عملي وهذا يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وإعادة التفكير في ماهية القوة ودورها في عالم يتغير بوتيرة أسرع مما يمكن للنظم القديمة مواكبته.