شحاتة زكريا يكتب: أوروبا.. بين إرث الماضي وأزمة الحاضر

0

قبل عقود ليست ببعيدة كانت أوروبا مركز العالم منطلقا للقوى الاستعمارية التي سادت بقوتها العسكرية وفرضت هيمنتها على شعوب بأكملها. ومع تحولات الزمن وتبدل الموازين ، تجد القارة العجوز نفسها اليوم في مأزق وجودي حقيقي بين إرث الماضي الثقيل وتحديات الحاضر المتسارعة.

الحديث عن “خوف أوروبا” لم يعد مجرد تكهنات أو توقعات بل هو واقع تترجمه سياسات مترددة واقتصادات مضطربة، وتحالفات مترنحة. أوروبا التي حكمت البحار والبراري يوما ما أصبحت الآن تعيش قلقا من المجهول سواء كان ذلك على مستوى التحولات السياسية الداخلية ، أو المتغيرات الدولية التي فرضتها القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين.

ما يثير الاهتمام هو التحول العميق في دور أمريكا الذي شكّل لعقود مظلة حماية لدول أوروبا عبر تحالف “الناتو” وغيره من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية. لكن عودة دونالد ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض تُنذر بخلخلة هذا الدور التقليدي ، خاصة بعد تهديداته العلنية بتقليص دعم واشنطن للحلف إذا لم تتحمل دول أوروبا جزءا أكبر من العبء المالي والعسكري.

إن أوروبا ليست فقط خائفة من فقدان حماية الحليف الأمريكي ، بل هي قلقة أيضا من النزاعات الإقليمية التي تحاصرها. الحرب الأوكرانية الروسية تُعد اختبارا حقيقيا لقوة التكتل الأوروبي. فالانقسامات التي بدأت تظهر بوضوح بين دوله حول كيفية إدارة هذا الصراع باتت تفضح ضعف الوحدة السياسية للقارة. ومع تهديدات ترامب بإنهاء الحرب على حساب أوكرانيا، باتت أوروبا أمام مشهد مُرعب من انتصار روسيا وإعادة ترسيخ وجودها كقوة إقليمية تُهدد الحدود الأوروبية.

الاقتصاد بدوره يُشكّل ورطة أخرى. لم تعد أوروبا كما كانت في زمن الازدهار الصناعي والاقتصادي، بل تعاني اليوم من أزمات متعددة. ارتفاع مستويات التضخم ، أزمات الطاقة التي فاقمتها الحرب ، وتنامي الحمائية الاقتصادية على المستوى العالمي تُنذر بمزيد من الركود. وإذ تفوز الصين والهند بموقع الصدارة في التجارة العالمية ، تتراجع أوروبا بخطوات متثاقلة ، وهي تواجه خطر فرض الرسوم الجمركية الأمريكية التي يمكن أن تعصف بقطاع صناعي يعتمد بشكل كبير على الصادرات.

إن صورة أوروبا “المستعمرة القوية” تلاشت لتصبح قارة تشعر بالحصار. فمن جهة تهددها روسيا عسكريا ومن جهة أخرى تضغط عليها الولايات المتحدة اقتصاديا وأمنيا. وما بين هذا وذاك ، تتخبط سياسات بعض حكوماتها كما هو الحال في ألمانيا وفرنسا اللتين أصبحت أزماتهما الداخلية تُعبر عن حالة التصدع التي تعيشها القارة بأكملها.

لكن هل أوروبا عاجزة تماما ؟ الواقع يقول إن أوروبا تمتلك من الموارد البشرية والاقتصادية ما يمكنها من استعادة مكانتها، بشرط أن تتجاوز حالة التردد والتشرذم السياسي الذي بات عنوانا لها. إعادة بناء الثقة بين دول الاتحاد الأوروبي ، وخلق مشاريع اقتصادية مستقلة بعيدا عن هيمنة القوى الكبرى ، قد يكون السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق التاريخي.

خوف أوروبا اليوم لا يقتصر على زوال مكانتها العالمية بل يمتد إلى فقدان هويتها وقدرتها على الصمود كقوة موحدة. ومهما كانت المبررات ، يبقى الدرس الأكبر في أن من يخشى المستقبل لا يمكنه أن يصنع التاريخ وأوروبا إن أرادت أن تعيد كتابة تاريخها فعليها أولًا أن تتخلص من أعباء الماضي وتحديات الحاضر بنظرة واقعية ومشروعات طموحة.