شحاتة زكريا يكتب: أوهام نتنياهو الكبرى.. عندما يعيد التاريخ نفسه

7

التاريخ لا يكذب.. هذه حقيقة يدركها كل من حاول أن يكتب بمداد القوة لا بالحقيقة ، وكل من ظن أن بوسعه أن يغير معادلات الزمان والمكان بالسلاح وحده. ومع ذلك يبدو أن بنيامين نتنياهو لم يقرأ جيدا صفحات التاريخ أو لعله قرأها بعين الوهم الذي يلازمه منذ أن جلس على مقعد الحكم متوهما أن بإمكانه إعادة إنتاج خرافة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات وأن بمقدور جيشه أن يفرض إرادته على شعوب المنطقة مهما كان الثمن.

أخطر ما في خطاب نتنياهو الأخير – الذى تحدث فيه عن بقاء إسرائيل لآلاف السنين – ليس مجرد المبالغة أو الغرور بل أنه يعكس حالة إنكار كاملة لحقيقة بسيطة: أن هذا الكيان وُلد من رحم القوة والاغتصاب ولم يستطع يوما أن يرسخ وجوده الطبيعي أو يكتسب شرعية راسخة. كل ما يفعله نتنياهو اليوم هو إعادة تدوير الأوهام التي عاشها من قبله الغزاة من التتار والمغول إلى القوى الاستعمارية الحديثة. والنتيجة دائما واحدة: ينهار الوهم عند أول اختبار حقيقي ويثبت التاريخ أنه لا يرحم المتوهمين.

من يراجع التجربة الإسرائيلية نفسها يجد أن الكيان اعتاد بناء أسطورته على القوة المطلقة. بعد حرب 1967 ساد الاعتقاد أن الجيش الإسرائيلي لا يُقهر. الإعلام الغربي ضخم من صورة إسرائيل كقوة خارقة لا تُهزم. لكن ما إن جاء أكتوبر 1973 حتى انكشف الوهم وانهارت أسطورة اللا هزيمة في ست ساعات عبر عملية العبور التي مازالت تدرس حتى اليوم في كليات الحرب. كان ذلك الدرس الأول: لا جيش يُهزم إلى الأبد ولا احتلال يبقى مهما طال الزمن.

نتنياهو يحاول أن يتجاهل أن إسرائيل رغم كل تفوقها العسكري والاستخباراتي عجزت عن تحقيق حسم أمام مقاومة صغيرة في غزة أو جنوب لبنان. أي قوة تلك التي تعجز عن تحرير أسير واحد أو وقف صواريخ بدائية محلية الصنع؟ أي دولة عظمى تلك التي لا تملك سوى قتل الأطفال وقصف المستشفيات لتثبت وجودها؟ الحقيقة أن إسرائيل لم تعد تُخيف أحدًا كما كانت تفعل في السابق؛ بل صارت صورتها في الشارع العربي والعالمي مرتبطة بالإبادة والدمار لا بالحداثة أو الديمقراطية التي طالما تغنوا بها.

أوهام نتنياهو لا تقف عند حدود الداخل الإسرائيلي بل تمتد إلى علاقاته مع العالم. فهو يظن أن دعم بعض القوى الكبرى يمكن أن يحميه إلى الأبد متناسيا أن المصالح متغيرة وأن من تحالفوا يوما مع المغول والتتار تخلوا عنهم عند أول منعطف. التاريخ يخبرنا أن الاستعمار الأوروبي ظل مهيمنا لعقود لكنه انهار فجأة أمام إرادة الشعوب في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. واليوم لن تكون إسرائيل استثناء من هذه القاعدة مهما طال الوقت.

الأخطر أن نتنياهو يتجاهل أيضا التحولات العميقة في الوعي الفلسطيني والعربي. فالمقاومة لم تعد مجرد تنظيم أو حركة بل تحولت إلى ثقافة وهوية إلى وعي جماعي يتوارثه الأبناء عن الآباء. كل بيت هُدم في غزة يصبح مدرسة جديدة لتخريج مقاوم وكل طفل فقد والديه يكبر وفي قلبه يقين بأن حقه لا يسقط بالتقادم. هذا الوعي وليس الصواريخ أو البنادق فقط، هو ما يرعب إسرائيل. لأنها تدرك أن المواجهة مع وعي الشعوب معركة خاسرة منذ البداية.

مصر تدرك هذه الحقيقة جيدا ولهذا لم تنجر وراء لعبة المزايدات أو الصفقات التي يروج لها البعض. دورها ظل ثابتًا: حماية الإنسان قبل الجغرافيا والدفاع عن جوهر القضية الفلسطينية كقضية هوية ووجود ، لا مجرد معركة حدود أو اتفاقيات. مصر اختارت أن تكون صمام الأمان في زمن الفوضى تدير الأزمة بعقل الدولة لا بعاطفة اللحظة،
وتضع مصلحة الشعب الفلسطيني في قلب أولوياتها.

التاريخ لا يكذب.. ولعل أهم ما يجب أن يدركه نتنياهو أن نهايته السياسية – وربما نهاية مشروعه بالكامل – لن تأتي من الخارج فقط بل من الداخل الإسرائيلي ذاته. الانقسامات المتزايدة الاحتجاجات المتصاعدة فقدان الثقة بين الشعب والقيادة كلها عوامل تنذر بانفجار داخلي قد يكون أعنف من أي مواجهة عسكرية. الكيان الذي بُني على الوهم سيهتز من داخله قبل أن يُهزم من خارجه.

في النهاية أوهام نتنياهو الكبرى ليست سوى فصل جديد في كتاب طويل عنوانه: الوهم ينهزم ، والحقيقة تبقى. والحقائق التي يرفض أن يراها واضحة للجميع: فلسطين باقية والشعوب لا تُهزم والاحتلال مهما طال مصيره إلى زوال.