شحاتة زكريا يكتب: إسرائيل في مرمى التاريخ .. من كذب الدفاع عن النفس إلى وثائق الإبادة

4

منذ أن قامت إسرائيل على جغرافيا مغتصبة عام 1948 وهي تروّج لنفسها باعتبارها “دولة محاطة بالأعداء”، تبحث عن شرعية وجودها تحت شعار “الدفاع عن النفس”. هذه الرواية لم تكن سوى ستار كثيف يخفي جريمة تأسيسها على الدم والتهجير لكنها وجدت دائما من يسوّقها في العواصم الغربية ، ويغطيها بمظلة من القوة والمال والإعلام. غير أن مشهد اليوم يختلف؛ فقد دخلت إسرائيل في مواجهة مع التاريخ نفسه لم تعد فيها قادرة على إخفاء حقيقة ما تفعل بعدما تحولت صورها ووثائقها إلى شهادات دامغة على جريمة إبادة مكتملة الأركان.

لقد سقطت ورقة التوت. فما كان يُروَّج له باعتباره “حق الدفاع عن النفس” بات يُرى على شاشات العالم إبادةً جماعية ضد المدنيين أطفال ونساء وشيوخ يُقتلون تحت القصف مستشفيات تُمحى مخيمات تُحرق وشعب أعزل يُعاقَب لأنه لم يمت بالصمت. الصور التي تتدفق من غزة لم تعد قابلة للتأويل ولم يعد ممكنا تمريرها كـ”أضرار جانبية”. إننا أمام جريمة مُصوَّرة بدقة ، يُسجّلها التاريخ لحظة بلحظة ، وتوثّقها آلاف العدسات والبيانات الرسمية وشهادات المنظمات الدولية.

التاريخ لا يرحم من يصرّ على الكذب. هكذا علّمتنا التجارب من النازية إلى الأبارتايد في جنوب إفريقيا. واليوم يتكرر المشهد: إسرائيل التي ظلت عقودًا تبيع العالم خطاب المظلومية وجدت نفسها في قفص الاتهام الأخلاقي ، لا لأن خصومها يكتبون ضدها بل لأن أفعالها باتت أكبر من قدرة أي دعاية على تبريرها. كل قنبلة تسقط على بيت كل طفل يُنتشل من تحت الركام كل مستشفى يُحاصر هو وثيقة إدانة. ليس الفلسطينيون وحدهم من يكتبون الشهادة بل الأرض والسماء والكاميرات وحتى تقارير الأمم المتحدة.

إن أخطر ما تواجهه إسرائيل اليوم ليس فقط صمود المقاومة ولا غضب الشارع العربي ، بل اهتزاز صورتها في الغرب ذاته. فهناك أصوات ترتفع في الجامعات ، وفي الشوارع الأوروبية والأمريكية تُعلن بصراحة أن “حق الدفاع عن النفس” لا يمكن أن يعني قتل آلاف الأبرياء. هذه الأصوات كانت يومًا هامشية لكنها صارت الآن تيارا يتسع كل يوم. لم يعد ممكنًا السيطرة على الرأي العام ببيانات الخارجية الإسرائيلية أو بيانات البيت الأبيض. الحقيقة تفرض نفسها والضمير الإنساني بدأ يستيقظ.

القوة العسكرية قادرة على أن تحسم معركة ميدانية لكنها عاجزة عن إسكات التاريخ. إسرائيل ربما تملك السلاح لكنها لا تملك الشرعية. وهذا هو الفارق الجوهري. فكما لم تنجح آلة الدعاية العنصرية في جنوب إفريقيا في إخفاء حقيقة الفصل العنصري ، لن تنجح إسرائيل في إخفاء حقيقة الإبادة التي ترتكبها. سيأتي اليوم الذي تُفتح فيه الملفات وتُعرض الوثائق أمام محاكم دولية ، ويُقرأ اسم إسرائيل بجوار جرائم كبرى في التاريخ من البوسنة إلى رواندا.

قد تراهن تل أبيب على عامل الوقت وقد تراهن على دعم واشنطن ، لكنها تغفل أن الأرشيف لا ينسى. الصور التي تُبث اليوم عبر وسائل الإعلام ستصبح غدا أدلة قاطعة في وجدان العالم. الأجيال الجديدة لن تقرأ عن “نزاع حدودي” أو “حق في الدفاع”، بل ستقرأ عن قصف مستشفيات ومدارس.وعن حصار يقطع الماء والغذاء والكهرباء عن مليونَي إنسان. هذه ليست حربًا عسكرية فحسب ، بل هي حرب على الحقيقة.

لقد صارت القضية الفلسطينية ليست قضية العرب وحدهم بل قضية الضمير العالمي. وهذا التحول وحده كفيل بأن يضع إسرائيل في مرمى التاريخ. فما من قوة تستطيع أن تغيّر منطق الأشياء: المظلوم سيبقى مظلوما والجلاد سيبقى جلادا مهما ارتدى من أقنعة.

التاريخ لا يكتب بالبلاغات الرسمية ولا بالتصريحات السياسية بل يكتبه الدم والأرض والشهود. واليوم التاريخ يكتب: أن إسرائيل لم تدافع يوما عن نفسها بل دافعت دائما عن كذبتها الكبرى. وأن ما كان يُسمى “حربًا عادلة” ليس سوى إبادة موثّقة بالصوت والصورة.

لقد حان الوقت أن ندرك أن المعركة ليست بين الفلسطيني وإسرائيل وحدهما بل بين الحقيقة والزيف بين العدالة والجريمة بين ضمير الإنسانية وصمت المصالح. وفي هذه المعركة قد يطول الطريق لكن النتيجة محسومة: ستبقى وثائق الإبادة شاهدا وستبقى الأكاذيب صفحة سوداء في سجلّ لن يغفر.