شحاتة زكريا يكتب: الأوضاع في سوريا .. فوضى الداخل وتكتيك الخارج
تعيش سوريا اليوم مرحلة غاية في التعقيد مع انهيار النظام القديم وانتشار الفوضى العارمة في الشوارع. أصبحت السلاح تجارة يومية ، وصارت السرقات والنهب مشاهد مألوفة في العاصمة دمشق والمدن الأخرى ، وكأنها تعيد للأذهان سنوات “الربيع العربي” وما تبعها من انهيارات أمنية واجتماعية. لكن في ظل هذا الواقع المأساوي يبقى السؤال الأهم: إلى أين تتجه سوريا؟ وما المصير الذي ينتظرها وسط هذا التشرذم الداخلي والتهديدات الخارجية المتزايدة؟
الداخل السوري يبدو وكأنه فقد بوصلته بالكامل ، فمع غياب الأجهزة الأمنية وانهيار الدولة المركزية ، تتفاقم المخاوف من اندلاع صراعات دامية ، قد تأخذ شكل حرب أهلية واسعة النطاق. السلاح المنتشر في كل مكان والنزعات الانتقامية المتصاعدة بين الأطراف المختلفة يزيدان من احتمالات الفوضى التي تهدد ما تبقى من وحدة الدولة السورية. ولكن في الوقت الذي ينشغل فيه الداخل بالصراعات الذاتية تتصاعد التحديات من الخارج بوتيرة أكثر خطورة.
إسرائيل التي لطالما كانت طرفا فاعلا وغير مباشر في أزمات المنطقة لم تفوّت هذه الفرصة التاريخية لتعزيز أجنداتها. فقد استغلت حالة الانهيار السوري لتحقيق مكاسب جيوسياسية جديدة، تحت غطاء “الدفاع عن النفس” الذي طالما استخدمته لتبرير اعتداءاتها في المنطقة. تقدم القوات الإسرائيلية نحو الداخل السوري والسيطرة على بعض المناطق الحدودية يأتي في إطار خطة مدروسة ، تهدف إلى تحويل الأنظار عن جرائمها في غزة، وتعزيز مكاسبها الاستراتيجية دون الاضطرار إلى خوض مواجهات مباشرة.
في هذا السياق يمكن فهم التحركات الإسرائيلية على أنها جزء من مشروع أوسع لخلق بيئة إقليمية غير مستقرة، تُلهي القوى الكبرى والإقليمية عن متابعة القضية الفلسطينية. فبدلا من التركيز على العدوان الإسرائيلي المستمر ، وجدت الدول المحيطة نفسها مضطرة للتعامل مع تهديدات داخلية وصراعات جانبية تستنزف مواردها وجهودها.
اللافت في هذه التطورات هو توقيتها المدروس. تزامن اشتعال الجبهة السورية مع وقف إطلاق النار في لبنان ما يشير إلى تنسيق محكم بين الأحداث. هذا التزامن خدم إسرائيل على مستويين؛ الأول يتمثل في تخفيف الضغط الدولي والإعلامي عن انتهاكاتها في غزة والثاني في فتح جبهة جديدة للصراع تعيد خلط الأوراق في المنطقة، وتعرقل أي محاولات لاستعادة الاستقرار أو بناء تحالفات عربية قوية قادرة على مواجهة التحديات المشتركة.
ربما تبدو هذه الفوضى فرصة ذهبية لإسرائيل لتحقيق أحلامها القديمة بتفكيك المنطقة إلى كيانات صغيرة متناحرة. ولكن التحدي الحقيقي يكمن في قدرة الأطراف الإقليمية على تجاوز الخلافات وبلورة رؤية موحدة لمواجهة هذا المخطط. فالسنوات الماضية أثبتت أن استمرار الصراعات الداخلية لن يخدم سوى الأطراف الخارجية ، التي تسعى لتوسيع نفوذها على حساب الشعوب العربية وأمنها القومي.
سوريا اليوم ليست مجرد ساحة لصراع داخلي بين الأطراف المتناحرة ، لكنها باتت حجر الزاوية في لعبة دولية وإقليمية معقدة. الحفاظ على ما تبقى من وحدة هذا البلد ومنع انزلاقه نحو فوضى أشمل يتطلب جهودا عربية جماعية تعيد الاعتبار للهوية المشتركة ، وتضع حدا لأطماع القوى الخارجية. فلا يمكن لأي دولة بمفردها مواجهة هذا المخطط الكبير، لكن مع تحالف عربي قوي وواع يمكن قلب الطاولة على كل من يسعى لتفكيك المنطقة وإضعافها.