شحاتة زكريا يكتب: الاقتصاد حين يشهر سلاحه
لا أحد كان يتصور أن الحرب المقبلة لن تبدأ بصاروخ بل بقرار جمركي. في زمن تعثرت فيه الدبلوماسية واحتدمت فيه الأنانية القومية باتت الحرب الاقتصادية الوجه العصري للصراع والأكثر خطرا من الحروب العسكرية. لا دماء تُراق لكن الخراب يعم. لا دبابات على الحدود لكن الأسواق تشتعل والجنيه والدولار واليوان يتحولون إلى رصاصات لا تُرى.
حين قرر الرئيس الأميركي أن يلعب بالنار لم تكن الصين وحدها من شعر بلهيب القرارات ، بل اهتزت الأرض تحت أقدام الأسواق العالمية. الرسوم الجديدة لم تكن مجرد أرقام تُضاف إلى قوائم الجمارك بل كانت إعلانا عن مرحلة جديدة حيث تسود شريعة الغاب الاقتصادية ويُستبدل منطق التعاون بمنطق الكسر والهيمنة.
الصين بقوتها الصناعية الهائلة وحنكتها السياسية.لم تنتظر طويلا. ردت سريعا وبقسوة. 34% رسوما جديدة على البضائع الأميركية ، وتضييق على صادرات المعادن النادرة تلك التي لا يصنع الحاضر التكنولوجي من دونها. لم ترفع بكين الصوت فقط بل رفعت التكلفة وأعادت ترتيب معادلات الربح والخسارة. ومن خلف الستار تراقب أوروبا بقلق وتلعن في سرّها هشاشة النظام التجاري العالمي الذي بنته لعقود وأطاحت به نزوة قرار من البيت الأبيض.
الحرب الاقتصادية لا تترك ساحة نظيفة. كل طرف يخرج منها مثقلا بالجراح. لكن الخطر الأكبر ليس في الخسائر المباشرة بل في ما يتبعها من اهتزازات. شركات تنهار وظائف تتبخر ثقة المستثمرين تتآكل والبنوك ترفع الحواجز. كل هذا يحدث لأن رجلًا واحدًا قرر أن يحوّل الاقتصاد إلى معركة لا إلى وسيلة تعايش.
الولايات المتحدة التي لطالما تغنت بدورها كحامية النظام العالمي تحولت إلى لاعب لا يؤمن إلا بالفوز الكامل. المعاملة بالمثل؟ ربما. لكن حين تفرض على الآخرين قواعد لعب لا تطبقها على نفسك فأنت لا تطالب بالعدل بل بالهيمنة. أمريكا تعرف جيدا أن الدولار ليس مجرد عملة بل سلاح سيطرة. فمن أين تأتي هذه الشكوى المزيفة من ظلم العالم؟!
ربما أخطر ما في هذه الحرب أنها تكشف زيف شعارات العولمة وتفضح هشاشة مؤسسات كانت تُقدَّس. منظمة التجارة العالمية، مثلها مثل الأمم المتحدة باتت حائطا لا يحتمي به أحد. وبدلا من أن تكون آلية لحل النزاعات أصبحت شاهد زور في زمن القوة العارية.
اللافت أن كثيرا من السياسيين الأميركيين لا يرون فائدة من هذه الحرب ولا من رسوم تعود بالخسارة على الداخل قبل الخارج. لكن الإدارة الأميركية باندفاعها وخططها الانتخابية تصم الآذان. الداخل الأميركي منقسم الأسواق مضطربة، والصين صامدة، بل ومبادرة. فهل حقق القرار هدفه؟ أم أنه فقط أشعل النار في بيت الجميع؟
الأسوأ لم يأتِ بعد إذ أن استمرار هذا النهج لا يعني فقط تباطؤ النمو العالمي بل يفتح أبوابا أمام أزمات اجتماعية وموجات فقر جديدة وهجرات قسرية تغذي التطرف وتزعزع الاستقرار.
الاقتصاد ليس أداة ضغط فحسب بل هو أيضا طريق للبناء والتفاهم. حين يتحول إلى سلاح يخسر الجميع. لا منتصر في حرب تخنق الشعوب وتغذي الانغلاق وتعيد العالم إلى مربعات الانقسام الأولى.
ربما كانت الفرصة لا تزال قائمة للعودة إلى العقل وربما يستطيع الكبار الجلوس على طاولة واحدة لكن ما دامت القرارات تُتخذ بهذه الرعونة فإن العالم مقبل على أيام صعبة لن يخرج منها أحد دون ندوب.