شحاتة زكريا يكتب : التهجير الفلسطيني .. جريمة حرب ومخطط لتصفية القضية

0

لم يكن الحديث عن تهجير الفلسطينيين مجرد طرح سياسي عابر بل هو جزء من مخطط قديم متجدد يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية من جذورها. كل المحاولات السابقة لإجبار الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم باءت بالفشل ، ومع ذلك تعود بعض القوى الدولية والإقليمية اليوم لمحاولة إحياء هذا المخطط تحت مسميات جديدة ومبررات زائفة متجاهلة القوانين الدولية وحقوق الشعوب في أرضها. ما يجري الآن ليس إلا استمرارا لمنهجية قائمة على فرض الوقائع بالقوة دون أي اعتبار للعدالة أو القانون الدولي.

ما يُروج له تحت عنوان “إيجاد حلول إنسانية لسكان غزة” ليس إلا إعادة إنتاج لجرائم التهجير القسري التي شهدها القرن الماضي حيث يسعى المخططون إلى استغلال معاناة الفلسطينيين نتيجة الحروب والحصار لدفعهم إلى خيار الهجرة وكأنه قرار طوعي ، بينما هو في الحقيقة إجبار ممنهج ومبرمج. لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار اقتلاع شعب من أرضه وإعادة توزيعه في أماكن أخرى حلا ، بل هو استمرار لسياسات التطهير العرقي التي يحاول المجتمع الدولي التظاهر بمكافحتها في أماكن أخرى من العالم.

ما يجعل هذا الطرح أكثر خطورة هو أنه لا يأتي من مجرد أطراف إسرائيلية متطرفة ، بل يجد دعما ضمنيًا من بعض القوى الكبرى ، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تقدم غطاء سياسيا وعسكريا لهذه السياسات. حين يتحول الحديث عن تهجير الفلسطينيين من كونه مجرد فكرة هامشية إلى مقترح مطروح في دوائر صنع القرار، فإن ذلك يعني أن القضية الفلسطينية أمام منعطف تاريخي خطير قد يؤدي إلى تغييرات جذرية في طبيعة الصراع وأبعاده.

الحديث عن نقل الفلسطينيين من غزة إلى دول أخرى بحجة تخفيف معاناتهم يحمل في طياته تناقضا صارخا. فكيف يمكن للجهات نفسها التي تسببت في الحصار والدمار أن تتحدث عن حلول إنسانية؟ وكيف يمكن اعتبار اقتلاع الناس من جذورهم حلا بينما الحل الحقيقي يكمن في إنهاء الاحتلال وإعادة إعمار غزة داخل أراضيها وليس في أماكن أخرى؟ إن التذرع بإعادة الإعمار كغطاء لتهجير السكان ما هو إلا محاولة للتلاعب بالمفاهيم فغزة يمكن إعادة إعمارها دون الحاجة لإفراغها من سكانها ، تماما كما تُعاد إعمار المدن التي تتعرض للحروب في أماكن أخرى من العالم دون إجبار سكانها على مغادرتها.

إسرائيل ومنذ عقود تروّج لفكرة أن المشكلة الحقيقية ليست الاحتلال بل وجود الفلسطينيين أنفسهم وتسعى بشتى الطرق لجعل الحياة مستحيلة أمامهم لدفعهم إلى خيار الهجرة القسرية. لكن الجديد في الطرح الحالي هو محاولة إعطاء هذا المخطط طابعا دوليا عبر دعم أطراف مؤثرة له والترويج له في أوساط إعلامية وسياسية على أنه “حل واقعي” للصراع. في الحقيقة هذا ليس حلا بل تفجيرا جديدا للأوضاع في الشرق الأوسط حيث لن يكون لتهجير الفلسطينيين أي نتيجة سوى إشعال مزيد من التوتر والعنف في المنطقة.

الموقف العربي وخاصة المصري كان واضحا في رفض هذا الطرح بشكل قاطع. فمصر تدرك أن أي محاولة لتفريغ غزة من سكانها لن تكون مجرد قضية إنسانية، بل تهديد مباشر للأمن القومي المصري ، وشرعنة لسياسات سابقة تهدف إلى تغيير التوزيع الديموغرافي للمنطقة. لهذا جاءت التحركات المصرية على مختلف المستويات ، سواء من خلال الاتصالات الدبلوماسية أو عبر التأكيد الصريح على أن أي محاولة لفرض هذا السيناريو لن تمر.

الدول العربية الأخرى وعلى رأسها السعودية ، تدرك أن تمرير أي مخطط للتهجير يعني إنهاء أي فرصة مستقبلية لحل عادل للقضية الفلسطينية. فقد أكدت السعودية أن التطبيع مع إسرائيل مرهون فقط بقيام الدولة الفلسطينية، وهو ما يتناقض جذريًا مع المخططات التي تحاول تحويل القضية من صراع على الأرض إلى مجرد أزمة إنسانية يمكن حلها بإعادة توطين السكان في أماكن أخرى.

على المستوى الدولي فإن السكوت على مثل هذه الطروحات يعني ضمنيا القبول بها ، وهو ما يجعل من الضروري وجود تحرك عالمي واضح لرفض أي محاولة لفرض التهجير كأمر واقع. فالمجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي: إما أن يكون جادا في الدفاع عن القانون الدولي وحقوق الإنسان ، أو أن يسمح بتمرير جرائم تهجير جديدة تحت مبررات واهية.

التاريخ علّمنا أن محاولات تهجير الفلسطينيين لن تحقق أهدافها وأن الشعب الفلسطيني أثبت على مدار العقود الماضية أنه قادر على مواجهة المخططات التي تستهدف وجوده. لكن التحدي اليوم أكبر من أي وقت مضى حيث لم يعد التهديد مجرد مخطط نظري بل تحول إلى مقترحات تُطرح في العلن وتحظى بدعم جهات مؤثرة.

المواجهة الحقيقية لهذه المخططات لا تكمن فقط في رفضها سياسيا ، بل في بناء استراتيجية متكاملة لتعزيز صمود الفلسطينيين على أرضهم ودعم جهود إعادة الإعمار داخل الأراضي الفلسطينية والتصدي لأي محاولة لجعل الحياة مستحيلة في غزة أو الضفة الغربية. كما أن الدول العربية مطالبة بتعزيز موقفها الموحد ضد هذه السياسات ، وعدم السماح بأي شكل من أشكال الضغط لتمريرها تحت عناوين إنسانية زائفة.

المعركة الحقيقية ليست فقط في تفاصيل هذا المخطط ، بل في المبدأ الذي يقوم عليه: هل سيُسمح في القرن الحادي والعشرين بتمرير سياسات التهجير القسري كحلول سياسية مقبولة؟ أم أن العالم سيقف أمام مسؤوليته التاريخية لمنع حدوث نكبة جديدة؟ الإجابة على هذه الأسئلة ليست مجرد مسألة فلسطينية، بل اختبار لمدى التزام العالم بالقيم التي يدّعي الدفاع عنها.