شحاتة زكريا يكتب: السلطة في عصر الكود.. السياسة العالمية تدخل حقبة جديدة

48

بقلم: شحاتة زكريا

لم تعد السلطة كما عرفناها من قبل. لم تعد تُقاس بعدد الدبابات ولا تُصاغ في غرف المفاوضات وحدها ولا تُمارس عبر المنابر أو القرارات الأممية. نحن أمام سلطة جديدة تتشكل في الخفاء تُكتب بلغات البرمجة وتُمارس عبر الخوارزميات ويُعاد من خلالها تعريف القوة والنفوذ والسيادة. إنها سلطة الكود التي تسكن في قلب كل نظام ذكي وفي كل هاتف ذكي وفي كل قرار تتخذه آلة تتعلم بسرعة تفوق خيال صناعها.

في عالم ما بعد الجغرافيا لم يعد السلاح النووي هو الذي يضمن الردع ، بل امتلاك مفاتيح البيانات ومراكز المعالجة العملاقة. الولايات المتحدة والصين تدركان أن معارك المستقبل لن تُحسم في ميادين القتال بل في مختبرات الذكاء الاصطناعي. من يكتب الكود يكتب السياسات ومن يتحكم في تدفق المعلومات يرسم حدود التأثير. لذلك تتحول التكنولوجيا إلى حلبة صراع سياسي واقتصادي تُدار فيها اللعبة الكبرى بصمت ، لكنها تغيّر مصير العالم كل يوم.

السلطة في عصر الكود لم تعد تُمارس بالقهر بل بالإقناع الخفي. فكل تطبيق يحمل في داخله نموذجا ثقافيا وسياسيا وكل خوارزمية توصية تُعيد تشكيل وعي الملايين دون أن يشعروا. ما كان يُسمى “النفوذ الناعم” أصبح اليوم نفوذا رقميا متغلغلا في التفاصيل اليومية. الدول التي تنتج الذكاء الاصطناعي لا تصدّر برامج فحسب بل تصدّر رؤى للعالم وأنماطا للسلوك وأولويات للحياة.

في المقابل تواجه الدول النامية تحديا وجوديا؛ كيف تحافظ على استقلال قرارها في زمن تتحكم فيه الخوارزميات في حركة الأسواق والرأي العام وحتى نتائج الانتخابات؟ لم تعد السيطرة على الموارد الطبيعية كافية لأن الثروة الحقيقية انتقلت من باطن الأرض إلى سحابة البيانات. لذلك فإن معركة العصر ليست على النفط أو الغاز بل على المعلومة على من يملكها ومن يفسرها ومن يوظفها في صناعة القرار.

التحالفات التقليدية أيضا تفقد معناها. فالدول التي كانت تُقاس قوتها بحجم جيوشها أو اقتصادها ، تجد نفسها الآن في سباق جديد على من يسيطر على شبكات الذكاء الاصطناعي ومن يستطيع بناء منظومات رقمية مستقلة تحمي سيادتها من الاختراق. الاتحاد الأوروبي يتحدث عن السيادة الرقمية، والهند تبني استراتيجيات الحكم بالخوارزمية الوطنية بينما تحاول واشنطن أن تفرض أخلاقيات الذكاء الاصطناعي كأداة نفوذ جديدة على خصومها وحلفائها معا.

لكن السؤال الأخطر: من يضع القواعد ومن يراقب اللاعبين؟ عندما تصبح الخوارزميات هي التي تحدد ما نقرأ ونشاهد ونؤمن به فإننا أمام خطر تآكل الحرية من الداخل. فبدلا من الدولة التي تفرض رقابة صريحة تولد أنظمة رقمية تراقب دون أن نعرف وتؤثر دون أن تعلن وتوجّه السلوك الجمعي كما يشاء صانعها. إنها سلطة بلا وجه لكنها قادرة على إعادة تشكيل الوعي الجمعي للأمم.

ربما كان ميشيل فوكو سيقول لو عاش اليوم إن المراقبة لم تعد في الأبراج بل في الأكواد. فالسلطة الحديثة لا تحتاج إلى شرطي بل إلى نظام ذكاء اصطناعي يحلل ويقرر. ومع ذلك لا تزال هناك فرصة لترويض هذه القوة. المطلوب ليس الخوف من التقنية بل إدراك أن السيادة في عصر الكود لا تتحقق بالانعزال بل ببناء القدرات الوطنية في مجالات البرمجة والذكاء الاصطناعي وتحصين المجتمعات بالوعي الرقمي حتى لا تتحول التقنية إلى أداة استتباع جديدة.

لقد دخل العالم حقبة غير مسبوقة فيها تتحول البرمجة إلى دبلوماسية والبيانات إلى ذخيرة والعقول إلى ساحات معركة. ومن لا يمتلك مفاتيح الكود سيجد نفسه خاضعا لإرادة من يكتبها. هذه ليست نبوءة بل واقع يفرض نفسه كل يوم. السلطة في عصر الكود لم تعد خيارا ، بل قدرا يجب فهمه قبل فوات الأوان.