شحاتة زكريا يكتب : العالم على حافة إعادة التشكيل: من يملك مفاتيح الغد؟

3

لم تعد السياسة الدولية اليوم مجرد لعبة توازنات تقليدية بين القوى الكبرى بل تحولت إلى ساحة صراع شامل تتقاطع فيها ملفات الطاقة مع التكنولوجيا والدبلوماسية مع الإعلام والاقتصاد مع الأمن. نحن أمام مشهد معقد يعيد تشكيله لاعبون قدامى يرفضون الانسحاب من المسرح ولاعبون جدد يصعدون بسرعة ويطالبون بمقاعدهم في الصفوف الأمامية. وبين هذا وذاك يقف العالم على حافة مرحلة جديدة لا تزال معالمها غامضة لكن المؤكد أنها لن تشبه أي مرحلة سبقتها.

القوى الكبرى التي كانت تملك زمام المبادرة طوال العقود الماضية باتت تواجه تحديات وجودية. الولايات المتحدة لم تعد قادرة على احتكار النظام العالمي وحدها ، فيما تصعد الصين بثقل اقتصادي وسياسي غير مسبوق وروسيا تبحث عن استعادة مكانتها رغم الكلفة الباهظة. أما الاتحاد الأوروبي فيحاول التوازن بين طموحات الاستقلال الاستراتيجي وظلال الاعتماد الأمني على واشنطن. إنها رقعة شطرنج عالمية يتبدل فيها موقع القطع مع كل حركة حيث لا توجد قواعد ثابتة ، بل مصالح متحركة ومفاجآت متلاحقة.

لكن ما يجعل اللحظة الراهنة أكثر خطورة هو أن العالم يعيش صراعا متعدد الأبعاد. فإلى جانب التهديدات العسكرية التقليدية هناك سباق على التكنولوجيا والبيانات والفضاء السيبراني وهو سباق لا يُقاس بعدد الدبابات أو الصواريخ،
بل بقدرة الدول على التحكم في المستقبل الرقمي للبشرية. لقد تحولت الخوارزميات إلى أدوات سلطة ، وأصبحت المنصات الرقمية أسلحة ناعمة تضاهي في تأثيرها أقوى الأساطيل. وهنا يصبح الأمن القومي مرهونا بحماية البيانات بقدر ما هو مرهون بحماية الحدود.

في الوقت نفسه تقف الطاقة كعنوان حاسم في معادلة السياسة الجديدة. لم تعد مجرد سلعة اقتصادية بل ورقة ضغط سياسي تحدد مسارات التحالفات وتعيد رسم الخرائط. كل أزمة في إمدادات الغاز أو النفط تتحول إلى أزمة في استقرار الحكومات وأسواق المال حتى صارت السياسة الطاقية هي العمود الفقري لأي استراتيجية دولية.

وفي قلب هذا كله تلعب الشعوب دورا جديدا غير مسبوق. فالعالم الذي كانت تتحكم فيه النخب السياسية وحدها، أصبح اليوم تحت مجهر الرأي العام العالمي الذي تصنعه وسائل التواصل الاجتماعي لحظة بلحظة. لم يعد السياسي قادرا على اتخاذ قرارات كبرى بمعزل عن ضغط الجماهير ولا قادرا على إخفاء الحقائق في عصر الصورة المباشرة والوثائق المسرّبة. إنها ديمقراطية جديدة لا تخضع لبرلمانات أو صناديق اقتراع فقط ، بل تحكمها سرعة “الترند” وسطوة المنصات.

ومع ذلك يبقى السؤال المركزي: من يملك مفاتيح الغد؟ هل هي القوى التقليدية التي تراكمت لديها الخبرة والقدرة العسكرية؟ أم هي القوى الصاعدة التي تمتلك شجاعة التغيير ورغبة اقتناص الفرص؟ أم ربما هو توازن هش بين الاثنين في عالم لم يعد فيه النصر عسكريا فقط بل حضاريا وثقافيا وتقنيًا؟

السياسة في هذا الزمن ليست صراعا على الحاضر فحسب بل معركة على حق كتابة المستقبل. ومن يدرك هذه الحقيقة هو وحده من يستطيع أن يصنع موقعه في خريطة القرن الجديد. أما من يظل أسير الماضي ، أو من ينخدع ببريق اللحظة ، فسوف يجد نفسه خارج معادلة التاريخ مهما كان نفوذه اليوم.

العالم يتغير بسرعة مذهلة وما نشهده اليوم ليس مجرد أزمات متفرقة بل فصولا من قصة كبرى تُكتب الآن. ويبقى السؤال الذي يستحق التأمل: هل نحن أمام ولادة نظام عالمي أكثر عدلا وتوازنا أم أمام فوضى ممتدة تحكمها القوة وحدها؟