شحاتة زكريا يكتب : القاهرة بوصفها نقطة الاتزان.. الوساطة المصرية من قمة الحرب إلى قمة السياسة

4

بين ضجيج الصواريخ وغبار المناورات السياسية تتقدّم القاهرة مرة أخرى إلى صدارة المشهد الإقليمي ، لا كطرف في معادلة الاستقطاب ، بل كضابط إيقاع يسعى لضبط النغمة بين الأطراف المتنافرة. زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى القاهرة لم تكن مجرّد جولة دبلوماسية عابرة بل انعطافة حقيقية تحمل في طيّاتها ما يتجاوز البروتوكولات ، نحو إعادة بناء معمار العلاقات الإقليمية فوق أنقاض التصدّع المزمن بين محورين طالما وقفا على ضفتين متقابلتين.

في عمق هذه الزيارة ثلاثة مسارات تلتقي: العلاقات الثنائية بين مصر وإيران ومحاولة إذابة نظام المحاور الذي هيمن على الشرق الأوسط لعقود والملف النووي الإيراني الذي أعيد فتحه على وقع التهديدات الأمريكية والاندفاعة الإسرائيلية. الثلاثة متشابكون ومترابطون ويتكثفون جميعا في لحظة سياسية نادرة تضع مصر في قلب الوساطة الحقيقية لا بوصفها جسرا فحسب بل بوصفها “مركز ثقل” في زمن اللايقين.

من جهة تحمل طهران ملفاتها الشائكة إلى القاهرة مدفوعة بتآكل أوراقها التقليدية في ساحات المقاومة ، بعدما تقهقرت الجبهات من سوريا إلى اليمن ومن لبنان إلى غزة بينما تقف الدولة المصرية على أرضية متماسكة نحتتها سنوات من التعافي السياسي والانضباط الاستراتيجي ونسجت خلالها شبكة شراكات دولية ممتدة من واشنطن إلى بكين مرورا بالعواصم الأوروبية والخليجية. لم يعد الصوت المصري مجرد “رأي معتدل” بل صار ضرورة لأي توازن محتمل.

ومن جهة أخرى فإن التقارب المصري الإيراني ولو في حدّه الأدنى يعبّر عن إدراك إقليمي متزايد بأن منطق المحاور بات عبئا أكثر منه أداة نفوذ. ما كانت تُسمى قوى “الممانعة” تراجعت إلى الدفاع عن خطوطها الخلفية فيما باتت شعارات “الاحتواء” و”الردع” بلا سند عملي. في هذا السياق تصبح القاهرة ليست فقط وسيطا بل مخرجا من معادلة صفرية بين طهران وواشنطن وبين إيران وجوارها العربي.

لقاء عراقجي مع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية بحضور وزير الخارجية المصري لم يكن تفصيلة زائدة. إنه رسالة مزدوجة: من إيران التي تبحث عن قناة اتصال محترمة لا تفقدها ماء وجهها ومن الوكالة التي تدرك أن صخب الملف النووي الإيراني لا يُحلّ بتقارير تقنية فقط بل بضمانات سياسية لا تصنعها إلا دولة ذات مكانة وموثوقية في آن.

ما يمكن تسميته بـ”دبلوماسية القاهرة” اليوم لا يُقاس فقط بعدد الجولات أو البيانات بل بقدرتها على إعادة تعريف الوساطة: من مهمة لتقريب وجهات النظر إلى مبادرة لإعادة بناء الترتيبات الإقليمية على قاعدة الأمن الجماعي والمصالح المتقاطعة. وما يُقال عن غزة يُقال أيضًا عن فيينا وعن صنعاء، وعن بيروت وعن طهران نفسها.

إن الوساطة المصرية لم تعد وساطة “موقع” جغرافي بل وساطة “مبدأ” سياسي وأخلاقي تستند إلى إرث من الدفاع عن الاستقرار وواقع من الشراكات النشطة ورؤية تعتبر التنمية والاعتدال هما الجسر الحقيقي لعبور الشرق الأوسط إلى ما بعد أزماته القديمة.

ببساطة، تبدو القاهرة اليوم كما لو أنها تقول: “لا بديل عن السياسة ولا كرامة لمقاومة تُباع في سوق الاستقطاب ولا مستقبل لإقليم تُحكمه الخنادق”. وما لم يسمعه العالم بعد قد يُضطر إلى الإصغاء إليه في قادم الأيام.