شحاتة زكريا يكتب: الكتلة التي لا تُزاح.. عن صعود الإرادة في زمن التوازنات الثقيلة

3

في زمن لا يسير فيه شيءٌ على وتيرة واحدة حيث تتبدّل الموازين كما تتبدّل الرياح ، تخرج من هذه المنطقة كتلة لا تُزاح. لا لأنها الأقوى تسليحا ولا الأغزر مالا ولا الأوسع نفوذا في مراكز القرار الدولي بل لأنها الوحيدة التي قررت أن تتحرّك بإرادتها، وفق مصالحها، وفي توقيتها.

منذ سنوات بدا الشرق الأوسط وكأنه يدور في فلك الخارج. تحالفات تُصنع في ممرات البنتاجون ، وتسويات تُبرم في صالات الكرملين ، وحروبٌ تبدأ بقرار دولي وتنتهي بقرار آخر. لكن شيئا تغير. شيئا لا يُرى في المؤتمرات ، ولا يُسجّل في البيانات الرسمية. إرادة خرجت من القيد.

ليست إرادة مقامرة أو اندفاع. بل وعي جديد بأهمية الفعل الذاتي. أن تتقدم لا لأنك مأمور بل لأنك مدرك. أن تبني تحالفك لا لأنك تابع ، بل لأنك شريك. أن تتعامل مع القوى الكبرى لا كأداة بل كطرف لديه مشروع. هذا الوعي الذي تسلّل بهدوء إلى عقول صانعي القرار هو ما يحوّل الكتلة إلى مركز ثقل.

لم تعد المسألة من سيكون مع مَن أو مَن سيحمي مَن. بل من يستطيع أن يقنع الجميع أنه موجود ويجب أن يُحسب له حساب. من يُمسك بخيوط اللعبة الإقليمية لا ليربكها ، بل ليعيد نسجها بمعادلة جديدة: من هنا تُدار الأمور لا من عواصم أخرى.

اللافت أن هذه الكتلة لا تُشهر سيفا ولا ترفع شعارا أيديولوجيا ولا تنزلق إلى استعراضات صوتية. بل تتحرك بصمت تثبّت موضعها وتفرض نفسها بالفعل. تحلّ المشكلات لأنها تعبَت من دفع فاتورة صراعات ليست لها. وتُبادر لأن الانتظار صار ترفا لا تملكه.

الزمن الآن ليس زمن من يملك أكثر بل مَن يجيد استخدام ما يملك. وقد أدركت هذه الكتلة أن ما تملكه ليس القواعد العسكرية ولا السلاح بل القدرة على صياغة المعادلات والتأثير في اللاعبين ، والتقدم بأجندة تتناسب مع مصالحها لا مع الوصفات الجاهزة.

العالم تغير .. لم تعد العواصم الكبرى تُهيمن كما اعتادت. صراعاتها أنهكتها وتحالفاتها القديمة تفكّكت ، ومراكز القرار فيها تعاني من ازدواجية الرؤية. في هذه الفوضى تخرج الإرادة باعتبارها العنصر الأكثر ندرة والأكثر حسما. وهنا يكمن الفارق.

فمن يملك الإرادة يملك القدرة على تجاوز القيود وتشكيل الاصطفافات وصناعة الزمن الخاص به. وهذه الكتلة فعلت. لا تسعى إلى مواجهة أحد لكنها لم تعد تنتظر إذنا من أحد. وهذا هو جوهر التحوّل: أن تتحوّل من ملعب إلى لاعب.

وفي زمن التوازنات الثقيلة حيث الجميع يراوح في مكانه خشية الانزلاق ، تصبح الحركة في حد ذاتها انتصارا. وعندما تصدر هذه الحركة عن وعي وسيادة وذكاء في إدارة الملفّات فإنها تتحوّل من حركة إلى حضور ومن حضور إلى مركز لا يمكن تجاوزه.

وهكذا لا يعود السؤال: ما موقعنا في النظام العالمي؟ بل: ما شكل النظام الذي نريد أن نكون جزءا من صناعته؟

وذاك تحديدا هو سؤال اللحظة.