شحاتة زكريا يكتب : المنطقة بين فكّي الاقتصاد والسياسة.. من يتحكم في لحظة التحول؟
في المنطقة التي لا تنام على استقرار ولا تستيقظ على فراغ باتت العلاقة بين الاقتصاد والسياسة أشبه بمعركة تكسير عظام صامتة لا يُسمع فيها صوت الرصاص لكن تُرسم على وقع الأرقام والعقود والتحالفات. فالعالم اليوم لم يعد يتعامل مع الشرق الأوسط كساحة نزاعات بل كسوق مفتوحة للمصالح ومختبرا للموازين الجديدة بين القوة والمال بين التأثير والتمويل.وبين من يملك القرار ومن يملك الثمن.
المنطقة العربية تتحرك الآن على حدّين متقابلين: اقتصاد يبحث عن الأمان والاستدامة وسياسة تحاول الإمساك بدفّة القيادة في بحرٍ متلاطم. لم تعد الجيوش وحدها تصنع النفوذ، بل أصبحت الاستثمارات والتحالفات الاقتصادية أدوات الهيمنة الجديدة. من يمتلك خطوط الطاقة والموانئ والممرات المائية يمتلك التأثير الحقيقي في قرارات السياسة الدولية.
في لحظة التحول هذه تتبدّل المفاهيم القديمة. فالدول التي كانت تعتمد على “القوة الصلبة” أدركت أن القوة الاقتصادية أصبحت السلاح الأكثر دقة والأطول مدى. ومصر نموذج واضح لذلك إذ بنت خلال السنوات الأخيرة رؤية تقوم على تحويل الاستقرار السياسي إلى قيمة اقتصادية وجعل الاقتصاد أداة من أدوات الحضور الإقليمي لا مجرد ملف تنموي داخلي. القاهرة تدرك أن من يتحكم في مفاتيح الاقتصاد الإقليمي يمتلك القدرة على صياغة لغة السياسة بلهجة أكثر توازنا واستقلالا.
التحالفات الجديدة في المنطقة لم تعد تُقاس بالخطابات بل بميزان المصالح المشتركة. فالعلاقات بين القاهرة والرياض وأبوظبي وبغداد وعمان تتحرك وفق رؤية متقاربة: الأمن لا ينفصل عن الاقتصاد، والسياسة ليست سوى امتداد لحسابات التنمية. في المقابل تدرك القوى الكبرى أن زمن الإملاءات انتهى وأن المنطقة لم تعد تقبل بدور “الملحق” في معادلة القوة بل أصبحت تسعى لأن تكون طرفا فاعلا ومُحددًطا للاتجاهات.
وفي قلب هذه المعادلة يظهر البعد الدولي كعامل ضغط وحسم في آن واحد. فواشنطن تحاول الحفاظ على نفوذها التقليدي في سوق الطاقة والممرات الحيوية بينما تقترب بكين وموسكو بخطى ثابتة من مناطق النفوذ الاقتصادي عبر الاستثمارات والمشروعات الكبرى. ومع ذلك فإن الشرق الأوسط لم يعد مجالا لتبعية من طرفٍ واحد بل ساحة لتعدد الأقطاب حيث تسعى كل دولة لتثبيتسيادتها الاقتصادية والسياسية معا.
اللافت أن الشعوب نفسها أصبحت أكثر وعيًا بهذه التحولات. فالمواطن العربي لم يعد ينظر إلى الاستقرار بوصفه شعارا سياسيا ، بل كشرطٍ أساسي لفرص العمل والحياة الكريمة. ومن هنا فإن الاقتصاد أصبح معيار الشرعية الجديدة للأنظمة والدول؛ من يخلق فرصا ويحافظ على أمنه وينفتح على العالم بعقلية شراكة لا تبعية هو من يربح معركة المستقبل.
إن لحظة التحول الراهنة لا تحتمل التردد. فالمنطقة تقف بين فكّي الاقتصاد والسياسة، في سباق مع الزمن لإعادة تعريف مكانها في الخريطة العالمية. ومن يمتلك القدرة على الموازنة بين كليهما سيكتب سطره بثقة في كتاب القرن الجديد.
ففي زمن تُعاد فيه صياغة القواعد وتُختبر فيه موازين القوة لا مكان لمن يكتفي بالمشاهدة. التاريخ لا ينتظر المترددين والخرائط لا تُرسم بالنيات. ومن يملك رؤية المستقبل هو وحده القادر على عبور الجسر بين السياسة والاقتصاد دون أن يسقط من بين فكّي التحول.
