شحاتة زكريا يكتب: بين واشنطن وطهران والدوحة والقاهرة.. كيف تتحرك رقعة الشطرنج؟

4

في الشرق الأوسط لا تُدار المعارك بالسلاح وحده بل تتحرك الأقدام على رقعة شطرنج كبرى حيث لكل حجر قيمته ، ولكل خطوة حساباتها الدقيقة. وبين واشنطن وطهران والدوحة والقاهرة ، يتشكل مشهد بالغ التعقيد ، تتقاطع فيه المصالح وتتصادم فيه الرهانات وتتشابك فيه الخيوط ما بين صفقات خلف الكواليس وانفجارات على الأرض.

واشنطن ما زالت اللاعب الأكثر حضورا ليس لأنها تملك كل الأوراق بل لأنها تُدير فن التوازن بين الحلفاء والخصوم. فإدارة البيت الأبيض ، رغم كل أزماتها الداخلية وانقسامها السياسي لا تزال تمسك بخطوط التوتر بين الخليج وإيران وتُلوّح بالعقوبات تارة وبالمفاوضات تارة أخرى وكأنها ترسم دائرة مغلقة تبقي الجميع داخلها. والهدف ليس الحل بل إدارة الأزمة بما يضمن استمرار الحاجة إلى الوسيط الأميركي.

أما طهران فهي تتحرك بمنطق الصبر الطويل. تدرك أنها ليست نِدّا عسكريا مباشرا لواشنطن أو تل أبيب لكنها تراهن على شبكة نفوذها الممتدة من العراق إلى لبنان وعلى أوراق ضغطها في الخليج واليمن. وفي كل مرة تتعرض لضربة أو حصار تُخرج من جعبتها ورقة جديدة تُربك الحسابات. إيران تعرف جيدا أن الوقت حليفها وأن أي انشغال أميركي داخلي أو ارتباك في أوروبا يفتح أمامها ثغرة لتعزيز نفوذها.

الدوحة تبدو صغيرة في الحجم كبيرة في الحركة. فمنذ سنوات وهي تلعب دور “الوسيط المزعج” الذي لا يمكن تجاوزه. تُمسك بخطوط مع واشنطن وتفتح قنوات مع طهران وتُبقي على علاقة مع تل أبيب وتدّعي في الوقت ذاته الالتزام بالبيت العربي. هذه القدرة على التنقل بين الضفاف جعلتها جزءا من اللعبة لكنها في الوقت نفسه وضعتها في موقع لا يخلو من الشك والريبة. فالرقعة لا تحتمل كثيرا من المناورات ، والمبالغة في الحركة قد تُحوِّل القطر الصغير إلى حجر يُضحَّى به في لحظة حاسمة.

أما القاهرة فهي ليست مجرد لاعب بل هي رمانة الميزان. بحكم موقعها وتاريخها وثقلها، تبدو قادرة على قلب الطاولة إذا أرادت أو على الأقل كبح جماح الانفجار الشامل. مصر لا تتحرك باندفاع لكنها تختار اللحظة بعناية ، تدرك أن انزلاق المنطقة إلى مواجهة مفتوحة يعني الفوضى على حدودها الشرقية والجنوبية وأن غياب الصوت العاقل يترك الميدان لجنون المغامرات. لذلك تتقدم القاهرة كصوت عقلاني لا يُسقط الثوابت ولا ينجر إلى الابتزاز وفي الوقت ذاته يُرسل رسائل واضحة بأن أمنها القومي خط أحمر لا يقبل المساومة.

الرقعة الآن مشتعلة: إسرائيل تُصدّر أزماتها إلى الخارج عبر تصعيد متواصل في غزة والجنوب اللبناني الولايات المتحدة تُحاول الموازنة بين دعمها لتل أبيب وخشيتها من انفجار إقليمي شامل إيران تُلوح بأذرعها وتُحرك بيادقها ببطء محسوب، وقطر تواصل لعب دورها كوسيط في لحظة لا تحتمل وسطاء بلا حدود.

السؤال الجوهري: إلى أين تتجه هذه الرقعة؟ هل نحن أمام تسوية مؤقتة جديدة تُعيد إنتاج الأزمة بشكل أكثر تعقيدا؟ أم أن المنطقة تقترب بالفعل من لحظة انفجار يصعب احتواؤها؟

الخبرة التاريخية تقول إن الشرق الأوسط لا يعرف الفراغ وإن أي طرف ينسحب يترك مكانه لآخر. لكن الخبرة ذاتها تؤكد أن القاهرة حين تختار التدخل بفاعلية تُعيد ضبط الإيقاع وتُثبت أن المنطقة مهما تشتبك خيوطها لا تزال تحتاج إلى عقل مركزي يوازن بين الانفعال والحساب.

في النهاية رقعة الشطرنج ليست لعبة مفتوحة بلا قواعد. كل حجر يتحرك ضمن مساحة محددة وكل لاعب يعرف أن أي خطأ في التقدير قد يعني خسارة الملك. لكن الفارق أن خسارة حجر في هذه الرقعة ليست مجرد حركة على لوح خشبي بل قد تكون انفجارا يهز استقرار دول بأكملها.

لهذا تبقى القاهرة الرقم الصعب في المعادلة تبقى واشنطن اللاعب الحاضر الغائب تبقى طهران خصما لا يمكن تجاهله وتبقى الدوحة حجرًا متحركا بين الضفاف. أما النتيجة فهي رهن بقدرة المنطقة على استعادة عقلها قبل أن يتحول الشطرنج إلى معركة حقيقية لا رابح فيها سوى الفوضى.