شحاتة زكريا يكتب: ترامب ومعادلة الاستعمار الجديد .. من المدافع إلى الاقتصاد والسياسة
لطالما كان الاستعمار أداة للهيمنة لكنه لم يعد يأتي بالمدافع وحدها بل بأدوات أكثر تعقيدا: الاقتصاد، والسياسة، والتكنولوجيا، وحتى الإعلام. دونالد ترامب ، الذي يمثل مدرسة خاصة في عالم السياسة، يقدّم نموذجا جديدا للاستعمار قائما على المراوغة والخداع، وتوظيف القوة الاقتصادية كأداة لفرض النفوذ بدلا من الاحتلال العسكري المباشر.
ترامب بسياساته غير التقليدية، لا يتحرّك كسياسي كلاسيكي بل كرجل أعمال يتعامل مع الدول والشعوب كمشروعات تجارية يحسب أرباحها وخسائرها. تصريحاته بشأن تهجير سكان غزة مثلا لم تكن مجرد زلة لسان، بل جزء من لعبة أكبر يستخدم فيها الصدمة أولا ، ثم يتراجع عنها جزئيا ، ليخلق مساحة جديدة للتفاوض على حلول قد تبدو “مخففة”، لكنها في جوهرها تخدم الأهداف الصهيونية.
الولايات المتحدة تاريخيا تبنّت سياسات استعمارية ناعمة من خلال فرض الهيمنة الاقتصادية والضغط السياسي، لكن ترامب نقلها إلى مستوى جديد ، حيث باتت تصريحاته وتصرفاته تكتيكات محسوبة. يطلق تصريحا صادما يراقب ردود الفعلز، ثم تُرسل إدارته إشارات متناقضة—وزير الخارجية يقول شيئا والبيت الأبيض يقول شيئا آخر—ليظل الجميع في حالة من الضبابية والتخبط ، بينما يستمر هو في فرض رؤيته بطرق غير تقليدية.
ما يميز الاستعمار الجديد الذي يمثّله ترامب هو أنه لا يعتمد فقط على القوة العسكرية بل على استخدام الأدوات الاقتصادية والمالية كسلاح. العقوبات الاقتصادية ، والضغوط التجارية، وصفقات الأسلحة، وحتى التحكم في المنظمات الدولية، كلها وسائل لتحقيق أهداف لم تعد تتطلب الجيوش كما في الماضي، بل قرارات تصدر في البيت الأبيض أو تغريدات على تويتر.
في الشرق الأوسط.لعب ترامب دورا محوريا في ترسيخ هذا النهج، حيث استخدم “صفقة القرن” كمثال على استعمار جديد لا يحتاج إلى جندي واحد، بل يعتمد على فرض واقع سياسي واقتصادي جديد يخدم إسرائيل على حساب الفلسطينيين. وهو ما يتكرر اليوم في طرح فكرة تهجير سكان غزة عبر إشغال العرب والعالم بجدل حول التصريحات بينما تُنفّذ سياسات الأمر الواقع دون مقاومة فعلية.
الخطر الأكبر في هذا النهج هو أن العالم يتعامل مع ترامب وكأنه مجرد زعيم متهور، بينما الحقيقة أنه يمثّل نمطًا جديدًا من القادة الذين يعيدون تعريف الاستعمار، ليس من خلال الاحتلال المباشر بل عبر أدوات أكثر دهاء وتأثيرا. التعامل مع تصريحاته كـ”مزاح سياسي” خطأ قاتل، لأنه بينما ينشغل الجميع بتحليل كلماته ، تكون سياساته قد أصبحت واقعًا ملموسًا على الأرض.
إذا لم تدرك القوى العربية والإسلامية طبيعة هذه المعادلة الجديدة، فسنجد أنفسنا أمام استعمار من نوع آخر، لا يحتاج إلى جيوش، بل إلى قرارات اقتصادية وعقوبات مالية وسياسات إعلامية مضللة. ترامب قد يكون شخصًا مثيرًا للجدل، لكنه نموذج لمرحلة جديدة من الصراع، حيث لا يأتي المستعمر بدباباته، بل بأدوات أكثر تطورًا، وأكثر خطرًا.