شحاتة زكريا يكتب: توازن القوى في الشرق الأوسط.. لعبة شطرنج لا تنتهي

3

من يتأمل خريطة الشرق الأوسط اليوم يكتشف أن المنطقة ليست مجرد فضاء جغرافي ، بل هي ساحة شطرنج تتغير قواعدها باستمرار حيث لا يتحرك اللاعبون وفق منطق بسيط للربح والخسارة ، بل وفق حسابات معقدة تتداخل فيها المصالح والتهديدات والتحالفات. وهنا يكمن سرّ صعوبة فهم المشهد: أن كل خطوة على الرقعة تفتح الباب لاحتمالات جديدة وكل تحالف قد ينقلب في لحظة إلى خصومة، والعكس صحيح.

منذ نهاية الحرب الباردة لم يعرف الشرق الأوسط استقرارا طويل الأمد. كل عقد تقريبا شهد صراعا يعيد توزيع الأوراق: من غزو العراق، إلى ثورات الربيع العربي، إلى صعود الإرهاب، وصولا إلى الحرب في غزة والتوترات مع إيران. وبين هذه المحطات ظلت القوى الإقليمية والدولية تبحث عن توازن يحفظ لها مصالحها لكن اللعبة لم تصل يوما إلى “كش ملك”.

القوى الإقليمية الكبرى — مصر، السعودية، تركيا، إيران، وإسرائيل — تتحرك كقطع رئيسية على الرقعة. لكل منها أولوياته وأوراقه: مصر بثقلها السكاني والتاريخي السعودية بثروتها النفطية ومكانتها الدينية تركيا بموقعها الجيوسياسي وطموحاتها العثمانية الجديدة إيران بمشروعها الأيديولوجي وشبكات نفوذها وإسرائيل بتحالفها مع الغرب وتفوقها العسكري. هذه القوى لا تستطيع أن تلغي بعضها لكنها أيضا لا تستطيع أن تعيش في عزلة. ولذلك يظل التوازن بينها هشا يتأرجح بين التصعيد والتهدئة.

أما اللاعبون الدوليون — الولايات المتحدة، روسيا، الصين، وأوروبا — فيتعاملون مع المنطقة باعتبارها مفتاحا لمعادلات أكبر. واشنطن ما زالت ترى الشرق الأوسط ضمانة لأمن الطاقة وحماية لإسرائيل رغم انشغالها بآسيا. روسيا تبحث عن موطئ قدم يعزز مكانتها الدولية بعد أوكرانيا والصين تنسج خيوط نفوذها بهدوء عبر الاقتصاد ومبادرة “الحزام والطريق”. هذه القوى الكبرى لا تكتفي بالمراقبة بل تحرك القطع أحيانا بالوكالة عبر دعم أطراف محلية أو إقليمية.

اللافت أن “لعبة الشطرنج” في الشرق الأوسط لا تنتهي بانتصار كامل لأي طرف لأن الهزيمة الكاملة لأي قوة قد تعني فوضى تهدد الجميع. لذلك يميل اللاعبون إلى التسويات المؤقتة، التي تعطي انطباعا بالاستقرار لكنها تحمل بذور أزمة جديدة. فكل اتفاق هدنة أو تفاهم اقتصادي أو تحالف أمني يظل محكومًا بميزان دقيق يمكن أن يختلّ في أي لحظة.

في قلب هذه المعادلة تبرز مصر بوصفها “وزنا مرجحا”. فهي ليست لاعبا يبحث عن مكاسب ظرفية بقدر ما تسعى للحفاظ على استقرار إقليمي يخدمها ويخدم جيرانها. لذلك تبدو القاهرة دائما صوت العقل تدعو إلى الحلول السياسية لا العسكرية وتتحرك دبلوماسيًا بذكاء يضمن لها أن تكون شريكا لا يمكن تجاوزه. وجود مصر بهذا الدور هو أحد أسباب أن اللعبة لم تنزلق إلى فوضى شاملة، رغم حدة الصراعات.

المستقبل لا يعد بتوازن مستقر، لكنه يعد باستمرار اللعبة. فالتغيرات في أسعار الطاقة ، والصراع على الممرات البحرية والتنافس التكنولوجي والعسكري ، كلها عوامل ستجعل الشرق الأوسط يظل رقعة شطرنج مفتوحة. لكن ما سيحدد مسار اللعبة ليس فقط حركة اللاعبين الكبار بل أيضا وعي الشعوب وقدرتها على فرض إرادتها.

إن توازن القوى في الشرق الأوسط ليس معادلة حسابية تُحلّ مرة واحدة بل هو عملية ديناميكية مستمرة. ومثل الشطرنج تحتاج هذه اللعبة إلى صبر طويل وبصيرة نافذة وقدرة على التفكير بعدة خطوات إلى الأمام. ومن يمتلك هذه الأدوات لن يكسب الجولة فقط بل سيبقى حاضرا على الرقعة مهما تغيرت قواعدها.