شحاتة زكريا يكتب : حرب بلا نهاية أم وطن يبحث عن ذاكرة؟ السودان في مفترق الأسئلة الكبرى
ليست الحرب في السودان مجرد صراع على السلطة بين جنرالين ولا هي معركة حدود أو قبائل كما يُروّج البعض؛ إنها مأساة وطن انكسر على مرآة تاريخه وانقسم على نفسه بين من يريد أن يعيش ومن يريد أن يحكم.
إنها حرب تبحث عن معنى في بلدٍ أنهكه النسيان حتى صار لا يتذكّر كيف يبدأ ولا يعرف كيف يتوقف.
فمنذ أن دوّت أول رصاصة في شوارع الخرطوم ، انفتح جرح لم يلتئم بعد وبدت البلاد كأنها تسير عكس الزمن إلى الوراء حيث تختلط الجغرافيا بالذاكرة وتضيع الدولة بين السلاح والمصالح والرماد.
لقد دخل السودان في عامه الثالث من الحرب وكل يوم يمضي يضيف صفحة جديدة في كتاب التيه.
الخرطوم لم تعد عاصمة بل فكرة غائمة بين الأطلال.
المدن القديمة التي كانت تُغنّي للنيل صارت تبحث عن قطرة ماء، والمزارع التي كانت تزرع القطن والقمح تزرع الخوف.
أما المواطن السوداني فقد صار شاهدا وضحية في آن واحد ينام على أصوات الانفجارات ويستيقظ على أخبار النزوح يحمل على كتفه حقيبة صغيرة فيها ما تبقى من الوطن: صورة مفتاح ودمعة.
لكن وسط هذا المشهد المأساوي هناك ما هو أخطر من الحرب نفسها: نسيان المعنى.
حين تتحوّل الحرب إلى عادة تُصبح الخسارة بلا وجع والموت بلا دهشة وتفقد الأوطان ذاكرتها الجماعية.
وهنا يبدأ الانهيار الحقيقي — حين يعتاد الناس الخراب وحين يصبح اللايقين هو النظام الوحيد الباقي.
السودان اليوم لا يخوض فقط معركة على الأرض بل معركة ضد النسيان ضد أن يُكتب تاريخه بيد الغرباء وضد أن يتحوّل إلى ساحةٍ لمعارك الآخرين.
لقد كان السودان يوما ما قلب إفريقيا النابض ومدخلها إلى العالم العربي.
تنوّعٌ لا مثيل له وثقافة تجمع بين النيل والصحراء وموهبة فريدة في تحويل المعاناة إلى شعر وأمل.
لكنّ الصراعات المتتالية جعلت هذا القلب ينزف.
فمن انقلاب إلى آخر ومن اتفاق هشّ إلى هدنة مكسورة ظلّ السودان أسير الحلقة المفرغة حتى صار السؤال: من يُنقذ من؟ الشعب أم الدولة؟
العرب يدركون أن سقوط السودان لا يعني فقط انهيار دولة بل اهتزاز عمق استراتيجي كامل للمنطقة.
فهو ليس مجرد جار لمصر أو ممرٍّ إلى القرن الإفريقي بل هو امتداد طبيعي لمنظومة الأمن العربي والإفريقي معا.
ولهذا فإن التعامل مع الحرب بوصفها أزمة محلية هو خطأ قاتل.
إنها أزمة هوية وجغرافيا وذاكرة — أزمة وطن يبحث عن نفسه في زمن صعب.
في خضمّ هذا الخراب تبقى القاهرة الأكثر إدراكا لطبيعة اللحظة.
تتحرك بهدوء دون ضجيج تسعى لوقف النزيف لا لتسجيل نقاط سياسية.
تعرف أن الجغرافيا لا تُغير وأن السودان ليس جارا فحسب بل شريان حياة وأمن قومي متصل لا ينفصل.
ومع ذلك لا تندفع مصر إلى قلب النار بل تُدير الموقف بعقل الدولة العميقة التي تفهم أن الحروب لا تُطفأ بالنيات بل بإعادة بناء الوعي.
لكنّ المأساة السودانية أكبر من أن تُحل باتفاق فوقي.
فالمجتمع هناك انقسم حتى النخاع والمؤسسات تآكلت والثقة بين المكوّنات انهارت.
ولذلك، فإن الحلّ الحقيقي يبدأ من استعادة الذاكرة الوطنية: أن يتذكّر السودانيون ما الذي يجمعهم قبل أن يُعيدوا رسم ما يفرّقهم.
أن يتذكّروا أن الخرطوم لم تُبنَ بالسلاح بل بالعقول.
أن الوطن ليس جنرالا ولا حركة مسلّحة بل هو الناس البسطاء الذين يدفعون الثمن في صمتٍ مهيب.
ربما تبدو الصورة الآن قاتمة لكن التاريخ علّمنا أن الأوطان التي تتألم بعمق تُولد من جديد بعمق أكبر.
وربما يكون السودان على موعد مع هذا الميلاد حين يدرك الجميع أن لا أحد ينتصر في حربٍ أهلية وأن كل طلقة تُطلق اليوم ستُطلق ضد الذاكرة غدا.
الأسئلة الكبرى التي يقف أمامها السودان ليست سياسية فحسب بل وجودية:
هل يمكن لوطن أن ينجو من نفسه؟
هل يمكن لتاريخ أن يُكتب من دون ذاكرة؟
وهل يمكن لشعب أن يُعيد بناء ذاته بعد أن يرى نفسه مكسورًا في المرآة؟
في النهاية سيظل السودان أكثر من مجرد أزمة عابرة.
سيبقى جرحا عربيا مفتوحا وصوتا في الضمير الإنساني يذكّرنا بأن الحرب مهما طالت لا تخلّف سوى العدم.
لكن الأمل — كالنيل — لا يموت بل يغيّر مجراه حتى يجد طريقه.
وربما في لحظة ما سيعود السودان ليقول للعالم:
كنتُ وطنا يبحث عن ذاكرة والآن وجدتُ نفسي.
