شحاتة زكريا يكتب: رقصة فوق العاصفة.. نتنياهو بين قبضة الحرب وشبح التهدئة
في عالم السياسة هناك من يفاوض ليحقق السلام وهناك من يفاوض ليكسب الوقت. نتنياهو لا ينتمي للفئة الأولى. الرجل لا يبحث عن حلول بقدر ما يُجيد هندسة المأزق وتأثيث المدى الزمني بالرهانات المؤجلة ثم القفز بين النقاط الساخنة كما يقفز بهلوان ماهر فوق لهب مشتعل ، لا ليُطفئه بل ليُبقيه مشتعلا تحت قدميه.
اليوم ومع كل جولة تفاوض حول غزة يتكرّر المشهد نفسه إلى حد التطابق. فصول متداخلة من المساومة وسيناريوهات معتادة من الشدّ والجذب ولغة دبلوماسية مترهّلة تُخفي وقائع ميدانية أكثر وضوحا من بيان ناطق باسم جيش الاحتلال. كل شيء يُدار بنمط الحلقة المُفرغة ، لا لأن الأطراف عاجزة عن كسرها بل لأن بقاءها مفيد جدا لطرف واحد: نتنياهو.
المفاوضات الجارية حاليا ليست محاولة للوصول إلى تسوية بقدر ما هي استكمال لحلقات عرض ممتد منذ ما بعد “طوفان الأقصى”. تفاوض متكرّر بلا نتائج حقيقية ومرونة تكتيكية دون نية استراتيجية وتغيّر في الأسماء لا في الأهداف بينما الوضع في غزة يمضي من سيء إلى أسوأ. الواقع أن أحدا لا يتعامل مع غزة كأرض أو كقضية بل كأداة تفاوض أو كرصيد يُستخدم لحظة الحاجة فقط.
المثير أن نتنياهو لا يفاوض حماس فقط. هو يفاوض واشنطن ويُلاعب اليمين التوراتي ، ويسترضي قادة الجيش ويُلوّح للمعارضة ويقايض الداخل بالخارجي في رقصة سياسية مُتقنة لكنه في الوقت نفسه لا يُقدم تنازلا واحدا يُمكن أن يُفهم منه أنه بصدد إنهاء الحرب. على العكس يضع يده في يد ترامب ويهمس لحلفائه أنه “لن يُنزل أحدا عن الشجرة طالما بقيت قبضته على العصا.
وفد التفاوض الإسرائيلي في الدوحة بلا صلاحيات تقريبا. الأمر لا يحتاج تفسيرا. هو مجرد وفد للضجيج الإعلامي ولتسويق صورة الدولة المنفتحة على “الحلول”، بينما يتم تهيئة المسرح لا للهدنة بل لـ”هدنة خادعة” تضمن لإسرائيل التقاط الأنفاس ثم العودة لجولة أخرى من الحسم العسكري إذا لزم الأمر أو استكمال خطة التآكل البطيء للمقاومة والمجتمع معًا.
من الناحية الأخرى تبدو حركة حماس وقد فقدت توازنها بين الإنكار والواقع. فهي ترفض الاعتراف بالهزيمة لكنها تُقدّم عروضا تشير إلى أنها تسعى للنجاة بأي صيغة تحفظ لها دورا سياسيا في اليوم التالي تصريحات القادة تُوحي بالاستعداد للخروج من المشهد التنفيذي لكن العرض الحقيقي يدور حول البقاء طرفا ولو من خلف الستار وبأي ثمن.
ومع هذا فإن الاستعصاء لا يقتصر على المواقف المتباعدة. المشكلة الأعمق تكمن في أن حماس تدير المفاوضات كما خاضت المعركة: بمفردها. لا مظلة وطنية ولا تفويض شعبي ولا شراكة سياسية حقيقية. وهذا ما يمنح الاحتلال شرعية زائفة ويُصعّب على الوسطاء إقناع العالم بوجود بديل فلسطيني موحد أو على الأقل صوت سياسي يتحدث باسم القضية لا باسم التنظيم.
نتنياهو يُدرك هذه الفجوة جيدا ويستثمرها باحتراف. يعلم أن المفاوضات الثنائية تُنتج تسويات هشة يمكن خداعها أو الاحتيال عليها لاحقا لذلك لا يخشى من توقيع ورقة هدنة بقدر ما يُخطط لكيفية تمزيقها بعد شهرين أو ثلاثة. هو لا يُريد تهدئة تُلزمه بانسحاب أو تُعرّيه أمام ناخبيه ، بل يريد فترة هدوء يُعيد خلالها ترتيب الأوراق وإعادة هندسة الداخل السياسي الإسرائيلي على إيقاع “الزعيم المُنتصر”.
لهذا فإن الأرجح أننا أمام سيناريو مؤقت: اتفاق جزئي يُهدئ الجبهة لا يُنهى الحرب. صفقة أسرى محدودة وحدود غامضة للوجود الإسرائيلي في غزة وربما إطلاق يد تل أبيب لإدارة مشهد ما بعد الحرب دون عودة فعلية للسلطة ، ودون وجود مباشر لحماس. ومع غياب البرلمان خلال عطلة الكنيست ستتراجع قدرة الائتلاف أو المعارضة على تعطيل قرارات نتنياهو وسيُصبح وحده على خشبة المسرح ممسكا بكل الخيوط وربما بكل الجوائز.
إنه يُفاوض الجميع لكنه لا يثق بأحد. يخدع أعداءه ويُراوغ حلفاءه ويبتزّ الوسطاء ويبيع لترامب أحلام نوبل ولليمين التوراتي أوهام الانتصار. وفى النهاية هو وحده الرابح… إلى أن تقرر غزة استعادة زمام المعركة من جديد ولكن على طاولة وحدة وطنية لا خندق تنظيم منفرد.
