شحاتة زكريا يكتب : زمن التمكين المتبادل .. السياسة الدولية تعيد ابتكار نفسها
لم تعد السياسة العالمية اليوم تُدار بمنطق التحالفات الصلبة أو الجغرافيا السياسية التقليدية. نحن نشهد تحولا لافتا نحو مفهوم جديد يُعرف بـ”التمكين المتبادل”، حيث لم تعد الهيمنة أو الاصطفافات وحدها تحدد ملامح المشهد بل أصبح التعاون بين القوى الإقليمية والدولية هو الأساس لإنتاج توازن حقيقي ومستدام في عالم شديد التعقيد.
في هذا الإطار تلعب دول مثل مصر والأردن دورا متزايد الأهمية ، إلى جانب قوى كبرى مثل فرنسا وألمانيا، ما يعكس تحولا في الفكر السياسي العالمي الذي بات يُدرك أن القضايا الإقليمية الكبرى مثل الحرب في غزة تحتاج إلى استجابات متعددة الأبعاد تتجاوز الحلول العسكرية أو البيانات الدبلوماسية التقليدية.
القمة الثلاثية الأخيرة في القاهرة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ، والملك عبد الله الثاني جسدت هذا التحوّل. لم تعد اللقاءات الدولية تكتفي بالتعبير عن المواقف بل أصبحت منصات فعلية لإعادة هندسة الشراكات الاستراتيجية. الدور الفرنسي الذي يحاول التوازن بين التزامات أوروبا ومصالحها في الشرق الأوسط بات أقرب إلى عقلانية الشرق في فهم جذور الأزمات خصوصا مع استمرار العدوان على غزة وتفاقم الأزمة الإنسانية.
ما يميز هذه المرحلة هو أن القوى الدولية الكبرى لم تعد وحدها صاحبة التأثير. فالدبلوماسية المصرية بواقعيتها وقدرتها على نسج خيوط التفاهم بين أطراف متعددة، أصبحت طرفا فاعلا في صناعة الحلول. كما أن مواقف دول مثل جنوب أفريقيا في دعم القضية الفلسطينية داخل المحافل القانونية الدولية تبيّن أن مفهوم القوة لم يعد حكرا على من يملك الاقتصاد الأكبر أو المقعد الدائم في مجلس الأمن.
التحوّلات العالمية الكبرى وعلى رأسها تداعيات الحرب الأوكرانية كشفت هشاشة النظام الدولي الحالي وأظهرت أن التحديات الأمنية لم تعد قابلة للحل عبر أدوات القوة وحدها بل من خلال شراكات مرنة تتشارك العبء والمسؤولية. من هنا يصبح التمكين المتبادل خيارا استراتيجيا لا مجرد خطاب.
فرنسا من موقعها الأوروبي تدرك أن تعزيز حضورها في الشرق الأوسط لا يمر فقط عبر المصالح ، بل عبر بناء جسور الثقة مع قوى إقليمية تعرف المنطقة بعمق وتتحرك بمنطق التوازن لا التصعيد. وهنا تبرز أهمية إعادة تعريف القيادة الدولية لتشمل دولا تمتلك شرعية أخلاقية وشعبية في مناطقها وتُحسن قراءة لحظة العالم الراهنة.
في النهاية فإن المستقبل لن يُكتب فقط بأقلام الكبار بل بخطوط تفاعلية ترسمها إرادة جماعية بين الشمال والجنوب بين الشرق والغرب ، على قاعدة التمكين المتبادل لا السيطرة المنفردة.