شحاتة زكريا يكتب: صناعة العدو… كيف تُدار الصراعات قبل أن تبدأ؟
في عالم يُدار بالصور قبل الحقائق ، وبالانطباعات قبل الوقائع، لم تعد الحروب تبدأ على الحدود بل في العقول. لم تعد الصراعات تُشعلها البنادق، بل تُمهّد لها الروايات. ولم يعد العدو ينتظر اللحظة التي يظهر فيها بل كثيرا ما يُصنع قبل ظهوره وكأنه بضاعة تُجهَّر وتغلف وتسوّق حتى تصبح حقيقة لا تقبل النقاش. هكذا تُدار السياسة الحديثة: صناعة إدراك وتشكيل وعي وتحويل الخلاف إلى تهديد ثم تهويل التهديد حتى يصبح عدوًا.
إن صناعة العدو ليست حدثا عابرا بل عملية معقدة تشترك فيها السياسة والإعلام والمصالح وتقوم على فكرة بسيطة: أنه لا يمكن للسلطة، أو المؤسسة، أو الدولة، أو حتى الجماعات أن تُقنع جمهورها بخوض معركة—مهما كانت طبيعتها—دون قصة تبرر ذلك. وهنا تبدأ الحكاية.
فالعدو في السياسة لا يقدم نفسه بنفسه. في الغالب يتم رسمه في الظل عبر تراكمات مقصودة صور منتقاة أخبار تنتشر بذكاء ومعلومات تُعرض بطريقة تجعل الجمهور يعتقد أن الخطر قريب وأن الاستعداد للصراع هو الخيار الوحيد. ولا يعني هذا أن العالم خال من الأخطار أو التهديدات لكن خطورة الظاهرة تكمن في اللحظة التي يتحول فيها “الاختلاف” إلى “عداء”، و“المنافسة” إلى “تهديد”، و“الآخر” إلى “خطر داهم”.
والسؤال المهم: لماذا تُصنع صورة العدو أصلا؟
الجواب يرتبط بطبيعة البشر كما يرتبط بطبيعة السياسة. الإنسان يحتاج دائما إلى إطار يفسّر له ما يحدث والسياسة تحتاج إلى وسيلة تجمع الجمهور حول هدف واحد. وحين تعجز الإنجازات عن توحيد الناس قد يلجأ البعض إلى خلق خصم يواجهونه معا. العدو هنا يصبح أداة تعبئة ، لا مجرد خطر حقيقي. يصبح وسيلة لترتيب الصفوف وإثبات الحاجة إلى القوة وتفسير الضغوط وحتى تبرير بعض القرارات.
ولعل أخطر ما في صناعة العدو هو أن الجمهور لا يشعر أنه يُدفع دفعا بل يعتقد أنه يصل إلى قناعاته بنفسه. فالفكرة تُقدّم تدريجيا: خبر صغير ثم تعليق ثم مادة إعلامية ثم خطاب سياسي حتى تتشكل الصورة الكاملة. وفجأة يصبح العدو واضحا حتى إن لم يطلق رصاصة واحدة.
لكن هل كل صناعة للعدو هي صناعة شريرة؟
بالطبع لا. أحيانا تكون التهديدات حقيقية وتتطلب توعية الناس بخطورتها. أحيانا يكون كشف الخطر ضرورة لحماية الأمن القومي. وأحيانا يكون العدو موجودا فعلا ، وله نوايا معلنة لا تقبل التأويل.
لكن الفارق بين الإدراك السليم والتصنيع الموجّه هو الشفافية. الصراع الحقيقي يعتمد على حقائق واضحة بينما الصراع المصنوع يعتمد على صور ناقصة. الصراع الحقيقي يبني موقفًا وطنيًا واعيا أما الصراع المصنوع فيبني حالة خوف لا تحتاج إلى دليل. وهنا تأتي أهمية الوعي.
المجتمع الواعي لا يخاف من معرفة الحقائق ولا يصدق كل ما يسمع ولا يسمح بأن يتحول التنافس الطبيعي إلى عداوة تُستنزف فيها الطاقات. فالدول التي تدير صراعاتها بالهدوء والعقلانية تدرك أن العداوة ليست غاية وأن بناء القوة الحقيقية لا يحتاج دائما إلى خصم ظاهر بل يحتاج إلى مشروع واستقرار وثقة بين الدولة والمجتمع.
إن العالم اليوم يعيش مرحلة تتقاطع فيها مصالح الدول وتتعارض فيها الحسابات. البعض يصنع عدوا ليحمي نفسه والبعض يصنعه ليبرر أفعاله والبعض يصنعه ليحقق مكسبا سريعا. لكن الشعوب التي تعرف طريقها لا تنجرّ وراء كل رواية، ولا تستسلم لكل خطاب لأنها تدرك أن أخطر أنواع الحروب هي تلك التي تبدأ في الوعي قبل أن تبدأ في الميدان.
ومصر—بما تمتلكه من تاريخ وثقل وقدرة—بحاجة إلى الوعي أكثر من أي شيء آخر. الوعي الذي يجعل المواطن قادرا على التمييز بين الصراع الحقيقي والصراع المفتعل وبين الخطر الذي يستحق أن نستعد له، والخطر الذي يُضخّم لغايات أخرى. دولة قوية مثل مصر لا تحتاج إلى “عدو مصنوع” كي تنهض، بل تحتاج إلى تعزيز ثقتها بنفسها، وإيمان شعبها بمسارها ، وإدارة صراعاتها الخارجية والداخلية بحكمة ورؤية بعيدة.
وفي النهاية فإن صناعة العدو قد تغيّر شكل الصراعات لكنها لا تغيّر الحقائق. والصراعات الحقيقية لا تُدار بالضجيج ، بل بالعقول. أما الدول التي تختار الحكمة، فإنها تعرف أن القوة الحقيقية ليست في كثرة الأعداء بل في قدرة الوطن على أن يبقى موحدا متماسكا واثقا من طريقه مهما تغيّرت الظروف.
هكذا تُدار الصراعات قبل أن تبدأ… وهكذا تنتصر الدول قبل أن تدخل المعارك.
