شحاتة زكريا يكتب :عالمٌ يعيد تشكيل نفسه.. هل نشهد ولادة نظام دولي جديد؟
العالم اليوم يقف عند مفترق طرق حيث تتصارع قوى دولية على إعادة تشكيل النظام العالمي وفق رؤاها ومصالحها. لم يعد المشهد الدولي كما كان قبل عقدين حين كانت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة بلا منازع. فاليوم تبرز الصين كلاعب اقتصادي عملاق وروسيا كقوة عسكرية تسعى لاستعادة مجدها، وأوروبا تحاول الحفاظ على تماسكها رغم الانقسامات الداخلية.
الملفت أن هذه التحولات ليست مجرد صراع نفوذ تقليدي، بل إعادة هيكلة شاملة للعلاقات الدولية قائمة على تحالفات جديدة وصراعات مستحدثة. فمنذ الحرب العالمية الثانية، اعتادت واشنطن على فرض إرادتها عبر المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ، لكنها اليوم تواجه تحديًا حقيقيًا من قوى صاعدة تسعى إلى تقويض هذا التفرد الأمريكي.
الولايات المتحدة تدرك هذا التحول وتسعى لمواجهته بأساليب جديدة. فبعد أن كانت تعتمد القوة العسكرية كأداة رئيسية باتت تلجأ إلى سياسات الاحتواء الاقتصادي.وإعادة توجيه تحالفاتها الاستراتيجية. نموذج ذلك يظهر في حربها التجارية مع الصين وضغوطها على أوروبا في ملفات الطاقة والسياسة الدفاعية.
أما الصين فهي تخوض حربا ناعمة لكسب النفوذ من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، التي تغلغلت اقتصاديا في آسيا وأفريقيا وحتى أمريكا اللاتينية. وفي الوقت نفسه تعمل على تعزيز وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي مما يثير مخاوف الدول المجاورة ويدفع واشنطن إلى تكثيف تحركاتها في تلك المنطقة.
روسيا من جانبها باتت تعتمد استراتيجية مختلفة. فبعدما فرضت وجودها العسكري في أوكرانيا وسوريا، تسعى الآن لإعادة إحياء نفوذها في أفريقيا وأمريكا اللاتينية عبر التحالفات العسكرية والاقتصادية. لكنها تواجه عقوبات غربية خانقة تهدد قدرتها على المناورة على المدى الطويل.
وسط هذا المشهد ، تبقى أوروبا في موقف المرتبك. فهي تحاول أن تحافظ على استقلالية قرارها، لكنها تجد نفسها في معركة بين مصالحها الاقتصادية مع الصين وروسيا، وبين ضغوط واشنطن التي تطالبها بالاصطفاف ضد خصومها. أزمة أوكرانيا كانت اختبارًا حقيقيًا لوحدة أوروبا لكن التباين في مواقف الدول الأوروبية كشف هشاشة هذا التكتل أمام الأزمات الكبرى.
في ظل هذه التغيرات يبرز سؤال محوري: هل نحن على أعتاب نظام عالمي جديد ، أم أن هذه الصراعات مجرد إعادة تموضع للقوى التقليدية؟ البعض يرى أننا نشهد نهاية الحقبة الأمريكية وبداية عصر التعددية القطبية، بينما يرى آخرون أن واشنطن رغم كل التحديات ما زالت تمتلك مفاتيح اللعبة وأن خصومها لا يزالون بعيدين عن تشكيل تهديد وجودي لهيمنتها.
السنوات القليلة القادمة ستكون حاسمة في تحديد مستقبل النظام الدولي. فإما أن نشهد تحالفات جديدة تعيد رسم خريطة القوة العالمية، أو أن تستمر واشنطن في الحفاظ على موقعها رغم التحديات، مستفيدة من شبكة تحالفاتها القديمة وقوتها الاقتصادية والتكنولوجية. في كل الأحوال، العالم الذي عرفناه لعقود يبدو في طريقه إلى التغير، والسؤال الأهم: هل سيكون هذا التغير سلمياً أم أن الصراعات ستأخذ منحى أكثر حدة؟