شحاتة زكريا يكتب: عامان على الطوفان.. غزة التي تكشف عجز العالم
عامان مرا منذ اندلاع الطوفان الحرب التي ظن البعض أنها ستُطوى سريعا كما طُويت عشرات الجولات السابقة بين غزة وإسرائيل. لكن ما جرى كان أبعد من مواجهة عسكرية عابرة بل زلزال سياسي وأخلاقي ما زالت ارتداداته تهز المنطقة والعالم حتى اليوم. غزة المدينة الصغيرة المحاصرة منذ عقدين كشفت بدمها وركامها عجز العالم وعرّت وهم النظام الدولي وأعادت تعريف معاني القوة والضعف النصر والهزيمة.
لم تكن معركة غزة مجرد قتال غير متكافئ بين جيش يملك أحدث الأسلحة وحركة تقاتل في شوارع ضيقة وأنفاق مظلمة. بل كانت مواجهة بين إرادة تريد الحياة رغم الحصار وبين آلة عسكرية لا ترى في المدنيين سوى أرقام قابلة للإبادة. عامان كافيان ليفهم العالم أن القضية لم تعد “نزاعا محليا” كما يحاول الإعلام الغربي تصويرها بل اختبار أخلاقي وإنساني لمجتمع دولي يُفترض أنه تأسس على قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان.
خلال عامين لم تتوقف صور الدماء تحت الركام ولم تغب مشاهد الأطفال الذين يخرجون من بين الأنقاض بعيون زجاجية لا تسأل سوى: لماذا؟ ورغم وضوح الجريمة ظل مجلس الأمن معطلا والبيانات الدولية لا تتجاوز “القلق العميق” و”الدعوة إلى ضبط النفس”. هذا العجز أو لنقل التواطؤ جعل غزة تتحول إلى مرآة تكشف زيف القوانين وتفضح ازدواجية المعايير في زمن يُحاكم فيه الضعفاء ويُحصّن فيه الأقوياء من الحساب.
لكن الطوفان لم يكشف فقط عجز العالم بل أظهر أيضا صلابة الشعوب. من شوارع القاهرة والرباط حتى نيويورك ولندن خرج الملايين هاتفين باسم غزة رافضين استمرار المذبحة. تحوّلت غزة إلى رمز يتجاوز الجغرافيا رمز لقدرة المستضعف على فرض حضوره على الطاولة الدولية حتى لو كان محاصرا ومقطوعا عن أبسط مقومات الحياة.
اقتصاديا أدركت المنطقة أن الحروب لم تعد تنتهي عند حدود الدم. غزة المحاصرة صارت جزءا من معادلة أوسع ترتبط بالطاقة والممرات البحرية واللاجئين وتؤثر على قرارات كبرى العواصم. إسرائيل التي سعت إلى كسر غزة عسكريا وجدت نفسها في مأزق سياسي متصاعد فقد تراجعت صورتها كـ”الدولة القوية القادرة على الحسم” وبدأت تشهد أزمات داخلية وانقسامات غير مسبوقة فيما بقيت غزة رغم الركام واقفة تعيد بناء بيوت بُنيت من قبل عشر مرات وهُدمت عشر مرات.
عامان على الطوفان وما زالت الأسئلة مفتوحة: هل تغيّر شيء في معادلات القوة؟ الإجابة قد تكون نعم ولا في آن واحد. نعم لأن إسرائيل لم تستطع فرض شروطها ولا كسر إرادة غزة. ولا لأن العالم ما زال عاجزا عن صياغة حل عادل وما زالت معاناة المدنيين مستمرة بلا أفق. لكن الأكيد أن ميزان الرمزية قد انقلب: غزة اليوم ليست مجرد شريط ساحلي صغير بل قضية كونية تضع كل دولة وكل مؤسسة وكل مثقف أمام سؤال بسيط: مع من تقف؟
منذ عامين انكشفت الحقيقة: لم يعد ممكنا الاختباء وراء عبارات “الحياد” أو “المسافة المتساوية”. فالحرب لم تترك مسافة آمنة بل وضعت كل إنسان أمام مرآة ضميره. والذين صمتوا أو تذرعوا بالبرود الدبلوماسي سيكتشفون أن التاريخ لا ينسى وأن الشعوب لا تغفر.
اليوم ونحن نستعيد ذكرى عامين على الطوفان تدرك غزة أنها دفعت أثمانا باهظة من دماء أبنائها ودمار عمرانها لكنها في الوقت نفسه حجزت لنفسها مكانا أبديا في وجدان الأمة وذاكرة العالم. أما العالم فقد خرج من الاختبار خاسرا، عاجزا عن حماية الضعفاء أو ردع الجناة.
إن الطوفان لم يكن معركة عسكرية فقط بل كان إعلانا عن بداية مرحلة جديدة: مرحلة تتجاوز فيها غزة حدودها الضيقة لتصبح عنوانا لكشف عجز النظام الدولي وزيفه. ومع كل طفل يُنتشل من تحت الأنقاض ومع كل بيت يُبنى من جديد تتأكد الحقيقة: غزة رغم الجراح أقوى من أن تنكسر وأكبر من أن تُمحى.
