شحاتة زكريا يكتب : عندما تصبح المصالح لغة السياسة

5

في عالم السياسة الدولية لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة مستمرة بل هناك مصالح متغيرة تحكم العلاقات وتعيد صياغة التحالفات. هذه القاعدة تظهر جلية في تعامل الولايات المتحدة مع التنظيمات المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط. الأمثلة عديدة لكن أبرزها يتمثل في التحولات التي شهدتها العلاقة مع “هيئة تحرير الشام” وزعيمها أحمد الشرع، المعروف بـ”أبو محمد الجولاني”.

لعقود كانت واشنطن تقدم نفسها كقوة عالمية تحارب الإرهاب وتلاحق رموزه ، مخصصة مكافآت سخية لمن يقدم معلومات عنهم. ومع ذلك تغيرت الصورة في لحظة عندما اجتمعت وفود أمريكية رسمية بالشرع بعد أن كان يُنظر إليه كأحد أخطر المطلوبين. هذا التغير لم يكن مفاجئا بالنسبة للمراقبين ، بل هو انعكاس طبيعي لنهج السياسة الأمريكية البراغماتي الذي يُكيّف المواقف وفقا للمصالح بغض النظر عن الشعارات المعلنة.

الواقع يؤكد أن هيئة تحرير الشام لم تختف ولم تتخلَ عن أيديولوجيتها المتطرفة. ما تغير هو موقعها على رقعة الشطرنج الإقليمية. فمن تنظيم إرهابي يحارب النظام السوري ، إلى شريك ضمني في مواجهة النفوذ الإيراني والروسي في المنطقة. هذا التحول يجعلنا نتساءل: هل الولايات المتحدة فعلًا تحارب الإرهاب أم توظفه لتحقيق أهدافها؟

تاريخ المنطقة يكشف أن أمريكا كانت دائما على استعداد لإعادة تعريف أعدائها وأصدقائها. في السابق شهدنا كيف دعمت واشنطن المجاهدين الأفغان في حربهم ضد الاتحاد السوفيتي ، لتتحول بعض هذه الجماعات لاحقا إلى “أعداء” تُحاربهم أمريكا نفسها تحت مسمى الحرب على الإرهاب. السيناريو ذاته يتكرر مع “داعش”، حيث يُنظر إلى التنظيم أحيانا كتهديد عالمي وأحيانا كأداة لضمان بقاء القوات الأمريكية في الشرق الأوسط.

هذا النهج الأمريكي لم يكن موجها فقط نحو التنظيمات المسلحة ، بل شمل أيضا دولا وأنظمة. فتارة تدعم واشنطن تغيير الأنظمة تحت مسمى نشر الديمقراطية، وتارة أخرى تتحالف مع أنظمة مستبدة لضمان مصالحها الاستراتيجية. في هذا السياق يبدو أن العلاقة مع “هيئة تحرير الشام” ليست استثناء، بل جزء من نمط متكرر.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن للعرب التعامل مع هذا الواقع؟ إن استمرار الاعتماد على القوى الدولية لتحديد مصائر المنطقة هو تكرار لأخطاء الماضي. فلا يمكن للعرب تحقيق أمنهم واستقرارهم دون رؤية استراتيجية تُدرك تعقيدات السياسة العالمية ، وتعمل على استثمار موارد المنطقة بشكل مستقل بعيدًا عن التبعية.

التغيرات في العلاقات الدولية ليست أمرا جديدا لكن المقلق هو غياب خطة عربية واضحة للتعامل مع هذه التحولات. فالولايات المتحدة وحلفاؤها لن يترددوا في تبديل مواقفهم إذا ما تطلبت مصالحهم ذلك. أما العرب فغالبا ما يجدون أنفسهم في موقع المتلقي ، يدفعون ثمن تحالفات لم تُبنَ على أساس متين.

إذا أراد العرب تغيير هذا الواقع ، عليهم البدء بتقوية مؤسساتهم الداخلية وبناء تحالفات إقليمية قائمة على المصالح المشتركة. العالم لن ينتظر من يعاني التردد والضعف بل سيتجه دائما نحو من يمتلك القوة والقدرة على فرض شروطه. وفي غياب هذه القوة ستظل المنطقة ساحة مفتوحة للمصالح الأجنبية تتحكم فيها لغة المصالح لا المبادئ.