شحاتة زكريا يكتب : عودة القُوَى إلى الساحة .. بين الصفقات والمواجهات في الشرق الأوسط

1

حين تُطل الصراعات الدولية برأسها فإن الشرق الأوسط غالبا ما يكون في مركز الدائرة الساحة المزدحمة بالتحالفات، والمصالح المتشابكة، والتناقضات الصارخة. هنا تختلط المصالح بالأيديولوجيات وتُختبر النظريات القديمة عن النفوذ والقوة. في هذا الإطار يبرز الشرق الأوسط الآن ليس فقط كمنطقة نزاع ، ولكن كمعمل عالمي حيث تُعاد صياغة قواعد اللعبة السياسية.

إن عودة دونالد ترامب إلى المسرح الدولي تحمل معها مفارقات لا تخطئها العين. الرجل الذي يُتهم أحيانا بالعشوائية والانعزالية يبدو في لحظات الحسم وكأنه سيد الأوركسترا. فبينما كان العالم مشغولا بمتابعة تعقيدات الصراع في غزة جاء تدخله ليعيد ترتيب الأوراق. هنا تتجلى فلسفته القوة تخلق السلام والصفقات ليست سوى أدوات لخدمة الهيمنة.

في لحظة فارقة نجح مبعوثه الجديد الذي جاء من خارج المؤسسة الدبلوماسية التقليدية، في كسر المألوف. “ستيفن ويتكوف”، رجل الأعمال الصارم لم يحمل وعودا فارغة ولا أوراقا سياسية مثقلة بالديباجة بل حمل معه مفهوما مختلفا للنفوذ. لم يكن بحاجة إلى لغة الدبلوماسية ليصل إلى ما أراده. ففي وقت قياسي استطاع تحقيق اختراق في مسار التفاوض بين إسرائيل وحماس ، مفندا مزاعم التعقيد التي وُصمت بها الإدارات السابقة.

لكن خلف هذا النجاح تظهر معادلة أكثر تعقيدا. ترامب الذي يخطط لعهد جديد في السياسة الخارجية، لا يبدو مهتما بالاستمرار في الأساليب القديمة. إدارته تسعى إلى كسر التقاليد التي طالما هيمنت على التفكير السياسي الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية. فبينما كانت الإدارات السابقة تتحدث عن المسؤولية، الديمقراطية، والقيم العالمية، فإن ترامب يضع كل ذلك جانبا مفضلا نهجا صريحا وعمليا، قائما على القوة والهيمنة الاقتصادية.

اللافت في الأمر أن ترامب رغم استعداده لصفقات سريعة وحاسمة، يدرك أن إسرائيل أو تحديدا اليمين الإسرائيلي قد يكون التحدي الأكبر لخططه المستقبلية. هذه الحكومة المتطرفة، التي تحركها رؤى إيديولوجية جامحة، ليست شريكًا سهلًا. وهنا يظهر تناقض ترامب الواضح: فهو يملك أدوات القوة والضغط ولكنه يواجه حلفاء عنيدين قد يعرقلون مشاريعه الكبرى.

ما يجعل المشهد أكثر إثارة هو التوقيت. فالهدنة التي تم التوصل إليها في غزة، لم تكن مجرد نهاية مؤقتة لصراع دموي، بل كانت بداية لتحديد ملامح حقبة جديدة. إسرائيل التي اعتادت الاعتماد على الدعم الأمريكي المطلق تجد نفسها أمام رئيس لا يمانع في تحريك قطع الشطرنج بقسوة، من أجل تحقيق مكاسب شخصية وسياسية.

في الجانب الآخر تتجه الأنظار نحو الأطراف الإقليمية الكبرى. إيران التي تشكل التحدي الأبرز للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي تحالفات جديدة تُفرض عليها. ومعها السعودية التي تسعى لإعادة ترتيب أوراقها بما يتماشى مع رؤية جديدة للمنطقة ، في ظل محاولات ترامب لإحياء الاتفاقيات الإبراهيمية بتوسع قد يتجاوز ما تحقق في ولايته الأولى.

ربما تكون الولاية الثانية لترامب أقرب ما تكون إلى مسرحية درامية مكتوبة بعناية. الشرق الأوسط لن يكون ساحة اختبار فقط، بل ساحة إعادة تشكيل. فالصراعات التي تبدو مستعصية اليوم قد تجد نفسها غدا جزءا من صفقات أوسع، تربط المصالح الاقتصادية بالنفوذ السياسي.

في النهاية يبدو أن معادلة ترامب واضحة: لا مكان للأخلاقيات المجردة في سياسته، ولا أهمية للقيود الدبلوماسية التي تكبل التحركات. إنها مرحلة القوة المطلقة، حيث يتم اختبار مدى قدرة الأطراف على القبول بتغييرات جذرية في موازين القوى. الشرق الأوسط كما كان دائما ، هو المكان الذي تُصنع فيه قواعد النظام الدولي الجديد.