شحاتة زكريا يكتب: غزة بين الحسابات السياسية وصراع البقاء
العالم كله ينظر إلى غزة ولكن ليس بعين واحدة. هناك من يراها جرحًا يجب أن يندمل وهناك من يراها عبئًا يجب التخلص منه وهناك من يراها ورقة سياسية تُلعب بها وفق المصالح. وبين هذه الرؤى المتناقضة يقف الفلسطينيون وحدهم في قلب العاصفة يقاتلون على أكثر من جبهة بينما تُرسم السيناريوهات لمصيرهم دون أن يكون لهم رأي حاسم في مستقبلهم.
إسرائيل كالعادة لا تتراجع ولا تعترف بأي ضغوط دولية ولا تشعر بأن عليها التزامات تجاه أي اتفاقات. هدفها واضح منذ البداية: تفريغ غزة من سكانها وإعادة رسم خريطتها الجغرافية والسياسية بحيث تصبح غير قادرة على تشكيل أي تهديد مستقبلي. عمليات القصف المستمرة والدمار الممنهج ليست مجرد رد فعل على ما حدث في السابع من أكتوبر بل هي جزء من مخطط قديم يعاد تنفيذه بأدوات جديدة في ظل مناخ دولي يُتيح لإسرائيل أن تفعل ما تشاء دون خوف من العواقب.
أما الولايات المتحدة فقد كانت رسائلها دائما تحمل ازدواجية واضحة. من جهة تتحدث عن ضرورة وقف إطلاق النار ومن جهة أخرى تمنح إسرائيل الدعم العسكري والغطاء السياسي اللازم لمواصلة عملياتها. وحتى عندما حاول الرئيس ترامب الترويج لمشروع “الريفييرا”، فإن الرفض العربي الحاسم لهذا المخطط لم يكن كافيًا لإقناعه بأن الحل لا يكون بفرض الواقع بالقوة بل بإيجاد تسوية عادلة تضمن حقوق الفلسطينيين. ومع ذلك فإن واشنطن ما زالت تناور واضعة شروطًا تعجيزية على المقاومة الفلسطينية في محاولة لخلق واقع جديد تخرج منه إسرائيل رابحة بينما تتضاءل فرص الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
داخليًا لا يبدو المشهد الفلسطيني أقل تعقيدًا. الانقسام بين السلطة الفلسطينية وحماس يزداد حدة والاتهامات المتبادلة بين الطرفين تجعل من الصعب الحديث عن وحدة وطنية قادرة على مواجهة المخاطر. السلطة تتهم حماس بأنها السبب في الكارثة التي حلّت بغزة وحماس ترى أن السلطة ليست سوى كيان تابع للإملاءات الخارجية. وبين الطرفين يدفع الفلسطينيون الثمن حيث لا يجدون قيادة موحدة تقودهم نحو حل واضح.
الدول العربية رغم رفضها القاطع لمشاريع التهجير ورغم دعمها للمبادرة المصرية إلا أنها لا تستطيع الذهاب أبعد من ذلك. لا أحد يريد الصدام مع الولايات المتحدة ولا أحد يستطيع أن يفرض على إسرائيل وقف عدوانها بالقوة. وفي النهاية تظل القضية الفلسطينية متروكة لمعادلات القوى الدولية حيث تُحدد المصالح مستقبل شعب بأكمله دون أن يكون لهذا الشعب القدرة على تغيير المعادلة لصالحه.
لكن السؤال الأكبر يظل: ماذا بعد؟ هل كان السابع من أكتوبر لحظة ولادة جديدة للقضية الفلسطينية أم أنها مجرد محطة أخرى في سلسلة الأزمات التي تنتهي دائمًا إلى طريق مسدود؟ الإجابة تعتمد على الفلسطينيين أنفسهم وعلى قدرتهم في استغلال هذا الزخم الدولي لتحقيق مكاسب سياسية حقيقية. فإذا لم يتحركوا بشكل استراتيجي وإذا استمر الانقسام الداخلي في ابتلاع فرصهم فقد تتحول هذه اللحظة إلى فرصة أخرى ضائعة تضاف إلى سجل طويل من الإخفاقات التي لم تكن القضية الفلسطينية يومًا بحاجة إليها.
المعركة ليست فقط مع إسرائيل بل مع الزمن ومع المصالح المتشابكة ومع القدرة على الصمود في وجه الضغوط. غزة لا تحتاج إلى بيانات الإدانة ولا إلى مبادرات بلا قوة بل تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية تعيد ترتيب الأولويات وتضع حدا لهذه المأساة التي لا يجب أن تتحول إلى مجرد فصل آخر في كتاب المعاناة الفلسطينية.