شحاتة زكريا يكتب : غزة بين مطرقة الاحتلال وسندان السياسة الأمريكية
منذ توليه منصب الرئاسة لم يُخفِ دونالد ترامب انحيازه المطلق لإسرائيل بل تجاوز حدود الدعم التقليدي إلى محاولة فرض واقع جديد يخدم المصالح الإسرائيلية بشكل غير مسبوق. لم تكن “صفقة القرن” سوى بداية حيث أعقبها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها ثم شرعنة الاستيطان في الضفة الغربية. واليوم وبعد عودته إلى الواجهة السياسية يطلق ترامب تصريحات أكثر خطورة بشأن غزة تشير إلى احتمالية تدخل أمريكي مباشر في القطاع ليس فقط لدعم إسرائيل بل ربما لإعادة صياغة المشهد الجغرافي والديموغرافي هناك.
لم يكن الحديث عن تهجير سكان غزة جديدا فقد تداولته الأوساط السياسية منذ بدء العدوان الإسرائيلي الأخير. إلا أن ما يثير القلق في تصريحات ترامب هو الطرح الأمريكي للاستيلاء المباشر على القطاع وإدارته تحت ذريعة إعادة الإعمار والاستقرار. هذا المفهوم يعيد إلى الأذهان سياسات الاستعمار التقليدي ، حيث يتم احتلال الأراضي تحت شعارات إنسانية أو اقتصادية ، بينما الهدف الحقيقي هو السيطرة الكاملة وتحقيق مصالح القوى الكبرى.
إسرائيل التي لطالما سعت للتخلص من عبء غزة ، قد تجد في الطرح الأمريكي فرصة تاريخية لتنفيذ مخطط التهجير دون تحمل التبعات المباشرة. فبدلا من أن تقوم إسرائيل نفسها بطرد الفلسطينيين ، قد يتم ذلك عبر مشروع دولي تقوده واشنطن ، بحجة إعادة تأهيل المنطقة وتحويلها إلى منطقة اقتصادية مزدهرة ، وهو ما أشار إليه ترامب في تصريحاته عندما تحدث عن تحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق”. لكن أي حديث عن مشاريع تنموية في ظل العدوان والدمار لا يمكن قراءته إلا في سياق مخطط أكبر لطمس الهوية الفلسطينية وتفريغ القطاع من سكانه.
الموقف الفلسطيني الرسمي يبدو مترددا في مواجهة هذه التطورات. فرغم التحركات الدبلوماسية الأخيرة ، لا تزال السلطة الفلسطينية عاجزة عن فرض رؤيتها كبديل مقبول يمنع هذا السيناريو. ومع استمرار الانقسام الداخلي بين الفصائل يزداد المشهد تعقيدا مما يمنح القوى الخارجية الفرصة لفرض حلول تخدم مصالحها على حساب الشعب الفلسطيني. في المقابل تكتفي بعض الدول العربية بالمراقبة دون موقف حازم يردع أي محاولة لتغيير الوضع القائم في غزة بالقوة.
التاريخ يعيد نفسه ولكن بوجوه جديدة وأساليب أكثر تطورا. فكما فُرضت اتفاقيات دولية سابقا لتقسيم المنطقة وفق مصالح القوى الكبرى يبدو أن غزة اليوم على مفترق طرق بين أن تبقى جزءًا من القضية الفلسطينية، أو أن تتحول إلى نموذج جديد للاستعمار الحديث. ما يحدد مصيرها ليس فقط مواقف القوى العظمى ، بل إرادة الفلسطينيين أنفسهم، ومدى قدرتهم على توحيد صفوفهم لمواجهة المخططات التي تهدد وجودهم ومستقبلهم.