شحاتة زكريا يكتب: غزة.. درب التعافي بين وهم النصر واستحقاق السلام
غزة تلك البقعة الصغيرة التي لطالما كانت مسرحا للمعاناة والصمود تعيش اليوم واقعا جديدا يراوح بين وهم النصر واستحقاقات السلام. بعد سنوات من الحصار ، الحروب المتتالية ، والدمار الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية، تقف غزة على مفترق طرق تاريخي؛ بين استعادة نفسها كرمز للصمود الفلسطيني ، وبين الانخراط في مشروع سياسي واقتصادي يعيد بناء ما هدمته العقود الماضية.
الواقع في غزة ليس بسيطا ، بل هو مزيج معقد من تحديات داخلية وخارجية، تعيق مسار التعافي. فداخليا ، لا تزال الانقسامات السياسية تلقي بظلالها الثقيلة على النسيج الوطني الفلسطيني ، حيث تتباين أولويات الفصائل بين التمسك بخيار المقاومة كوسيلة وحيدة لتحرير الأرض ، وبين استغلال الفرص الدبلوماسية لتحقيق مكاسب سياسية تُخرج القطاع من أزماته.
أما على الصعيد الخارجي ، فإن البيئة الإقليمية والدولية تبدو أكثر تعقيدا غزة لم تعد مجرد قضية محلية، بل أصبحت محورا للتجاذبات بين قوى إقليمية كبرى ، تسعى كل منها لتوظيف معاناة أهلها لتحقيق مكاسب في ساحات أوسع. في ظل هذا المشهد تبرز أسئلة ملحة: هل يمكن أن تصبح غزة نموذجا للسلام أم أنها ستظل عالقة في دوامة الحصار والعنف؟
ما يثير القلق حقا هو المحاولات الإسرائيلية المستمرة لفرض وقائع جديدة على الأرض، تسعى من خلالها إلى كسر إرادة الفلسطينيين وإضعاف وحدتهم. فمنذ توقيع اتفاق التهدئة الأخير ، تسعى إسرائيل إلى استغلاله لتغيير قواعد اللعبة حيث تحول الحصار من أداة خنق مباشر إلى سلاح سياسي يُستخدم لإضعاف موقف الفصائل الفلسطينية وإجبارها على تقديم تنازلات غير مبررة.
رغم ذلك تظل غزة بإنسانها وقضيتها عنوانا للصمود والتحدي. لا يمكن إنكار ما قدمه الشعب الفلسطيني في غزة من تضحيات هائلة، حيث استطاع أن يفرض قضيته على الأجندة الدولية، ويؤكد حقه في العيش بكرامة فوق أرضه. ولكن هذه التضحيات لن تكتمل إلا إذا تحولت إلى استراتيجية طويلة الأمد تُوازن بين الحفاظ على المقاومة كحق مشروع وبين السعي لبناء اقتصاد قوي ومجتمع مستقر.
إن إعادة إعمار غزة ليست مجرد مشروع إنساني ، بل هي مهمة وطنية كبرى تستوجب تكاتف جميع القوى الفلسطينية. لا يمكن أن يتم التعافي في ظل استمرار الانقسام السياسي، الذي يعمق الجراح ويقوض كل الجهود الرامية إلى تحسين حياة المواطنين. الوحدة الوطنية هي الخطوة الأولى والأهم في طريق التعافي، فهي تمثل الأساس الذي يمكن من خلاله توحيد الجهود لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالقطاع.
على الجانب الآخر يجب على المجتمع الدولي تحمل مسؤولياته التاريخية والأخلاقية تجاه غزة. لن يكون هناك سلام حقيقي إذا استمرت إسرائيل في استخدام الحصار كأداة للابتزاز السياسي، ولن يكون هناك استقرار إذا لم يتمكن الفلسطينيون من استعادة حقوقهم المشروعة في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة.
اليوم وأكثر من أي وقت مضى تحتاج غزة إلى رؤية استراتيجية شاملة ، تضع مصلحة المواطن الفلسطيني في المقام الأول. رؤية تجمع بين السياسة والمقاومة ، بين الصمود على الأرض والسعي إلى تحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية ترفع من مستوى حياة الناس.
قد يبدو هذا الطريق شاقا لكنه ليس مستحيلاً. فالتاريخ أثبت أن غزة قادرة على النهوض من تحت الركام ، كما أنها قادرة على تحويل محنها إلى منطلقات جديدة نحو مستقبل أفضل. ولكن هذا لن يتحقق إلا إذا أدرك الجميع أن النصر الحقيقي لا يكمن في إلحاق الأذى بالخصم بل في القدرة على بناء مجتمع قوي ومستقر، يضمن للأجيال القادمة حياة كريمة ومستقبلاً أكثر إشراقاً.
غزة اليوم بحاجة إلى إرادة جماعية ، تُغلب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية الضيقة ، وإلى قيادة قادرة على استثمار التضحيات التي قدمها شعبها لتحقيق تحول حقيقي. إن استحقاق السلام لن يتحقق بمجرد توقيع اتفاقيات أو تهدئة مؤقتة، بل يتحقق عندما يشعر المواطن الفلسطيني في غزة بأن حياته أصبحت أفضل وأن آماله وأحلامه لم تعد مجرد شعارات تُرفع في المناسبات، بل واقعا ملموساً يعيشه كل يوم.
في النهاية يبقى السؤال مفتوحا: هل ستتمكن غزة من تجاوز عقبات الماضي وبناء مستقبل أفضل؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تبدأ بخطوة واحدة واضحة: التوحد من أجل فلسطين