شحاتة زكريا يكتب: في قلب العاصفة.. من يملك قرار إشعال الحرب أو تجميدها
في اللحظة التي تشتعل فيها جبهة الشرق الأوسط وتتطاير تهديدات الحرب النووية من طهران إلى تل أبيب ، ثم تعود عبر واشنطن محمّلة بلغة مزدوجة ، يظلّ السؤال الحقيقي: من يملك القرار؟ ومن يحدد نقطة الانفجار أو التراجع؟ وهل الحرب – لو اندلعت – ستكون صراعا على النووي أم اختبارا لقدرة العالم على النجاة من نفسه؟
في الظاهر تبدو الصورة مألوفة: إسرائيل تهاجم وإيران تهدد وأمريكا تتحدث عن الردع والدبلوماسية في آنٍ معا. لكن خلف هذا التكرار المُمل هناك تغيير نوعي يجري. إنّنا أمام لحظة إعادة تشكيل كاملة لمعادلة القوة ، ليس فقط في الشرق الأوسط بل على مستوى النظام العالمي.
الولايات المتحدة اليوم ليست تلك الدولة التي اعتدنا عليها في بداية الألفية. الإرهاق الذي خلفته حروب طويلة في أفغانستان والعراق والتبدلات العميقة في الاقتصاد والسياسة الأمريكية ، جعلتها أقل ميلاً للتورط المباشر وأكثر رغبة في إدارة الصراعات من بعيد. لكن هل تنجح هذه المعادلة دائما؟ وهل تصلح مع إيران وإسرائيل وهما دولتان تستندان إلى سرديتين وجوديتين؟ الأولى تعتبر نفسها حامية للثورة والثانية تدّعي الدفاع عن البقاء!
اللافت أن كل الأطراف تُلوّح بالخطر النووي دون أن تعترف علنًا بأن اللعبة باتت أخطر من أن تُترك للتصعيد التلقائي. إيران ترفض الانصياع لضغوط الغرب وتواصل تطوير قدراتها حتى لو لم تصرح بنيّتها تصنيع سلاح نووي ، بينما إسرائيل تواصل سياسة “الغموض النووي” مدعومة بصمت أمريكي كامل بل وتقوم بعمليات استباقية محسوبة ضد المنشآت النووية الإيرانية.
وسط هذه الدوامة تتعامل واشنطن وفق مبدأ “الردع عبر الحلفاء”. لا تريد أمريكا أن تدخل حربا جديدة لكنها – في الوقت ذاته – لا تسمح لإيران بكسر قواعد اللعبة. فتدعم إسرائيل ضمنيا وتُمارس الضغط الاقتصادي على طهران وتفتح أبواب التفاوض حينا وتغلقها حينا آخر. ولأن السياسة الأمريكية تُدار أيضا وفق حسابات الداخل فإن الرأي العام الأمريكي – الذي ملّ من الحروب البعيدة – يلعب دور الكابح الأكبر لأي قرار بالتورط العسكري المباشر.
ولعل المعضلة الأهم تكمن في أن واشنطن باتت محاصرة بين جناحين: الأول داخلي يطالبها بالانكفاء والانشغال بالداخل الأمريكي وهو التيار الذي أوصل ترامب ذات مرة إلى البيت الأبيض تحت شعار “أمريكا أولا”، والثاني خارجي يرى أن التراجع الأمريكي يفسح المجال لقوى أخرى كروسيا والصين لبسط نفوذها ويُضعف ثقة الحلفاء في مصداقية أمريكا كقوة رادعة.
لكن إسرائيل لا تنتظر دائما إذنا أمريكيا. فهي تتصرف أحيانا بمنطق الضرورة الوجودية وتلجأ للضربات الاستباقية كلما شعرت بأن إيران تقترب من نقطة اللاعودة في مشروعها النووي. وهذا يضع أمريكا في وضع صعب: فهي لا تستطيع التخلي عن أمن إسرائيل لكنها تدرك أن أي مواجهة كبرى مع إيران تعني تكرار سيناريوهات كارثية وفتح أبواب جهنم في المنطقة بأسرها من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن.
أما إيران فهي تُجيد اللعب على حافة الهاوية. تستخدم خطابها الثوري لتكريس نفوذها الإقليمي وتراهن على تشتت القرار الغربي وتُسوق نفسها – أمام الداخل والخارج – كقوة مقاومة للهيمنة. لكنها في العمق تدرك أن المواجهة المباشرة مع أمريكا أو إسرائيل ستكون مدمرة ولهذا فهي تُبقي ردودها ضمن هامش مُحدد ، وتستخدم وكلاءها الإقليميين كأدوات للضغط والتفاوض في آن واحد.
في هذا السياق تبدو المنطقة كلها وكأنها فوق صفيح ساخن بينما الجميع يراهن على أن الآخر لن يضغط الزناد. لكن الرهانات قد تخطئ وقد يتحول سوء الحساب إلى كارثة. لأن التاريخ علّمنا أن الحروب الكبرى لا تبدأ دوما بقرار عقلاني بل أحيانا بخطأ صغير في قراءة الإشارات.أو برغبة سياسية في الهروب من مأزق داخلي.، أو حتى من تغريدة غاضبة!
المطلوب اليوم ليس فقط منع الحرب بل إعادة التفكير في أدوات الردع وأشكال النفوذ. فلا السلاح النووي ضمان للأمن ولا الحلفاء قادرون على تغطية كل أخطائنا. المطلوب أن يتصرف العالم – أخيرا – كبالغين في غرفة مراهقين يلهون بالبارود. وأن تتوقف القوى الكبرى عن توظيف الصراعات الإقليمية لتثبيت نفوذها وتبدأ بتجنيب الإنسانية مزيدًا من الدم والدمار.
من يملك قرار الحرب؟ في الظاهر واشنطن. في العمق لا أحد يملكه منفردا. لكنه إذا انفلت لن يكون في يد أحد أن يوقفه.
