شحاتة زكريا يكتب: كيف تستخدم واشنطن ورقة المياه واللاجئين لفرض توازنات جديدة؟

14

في السياسة الدولية لا يُدار كل شيء بالعلَن ، ولا تُخاض المعارك كلها بالمدافع والصواريخ فبعض أخطر الأسلحة وأكثرها تأثيرا تأتي في هيئة ملفات إنسانية أو أزمات طبيعية ، وبين هذه الأوراق الخطرة تقف ورقتان لا يراهما الكثيرون كأدوات ضغط: المياه واللاجئون. والولايات المتحدة تدرك هذا تماما فتتعامل مع الماء لا كمورد طبيعي بل كأداة ضغط جيوسياسي وتتعامل مع اللاجئين لا كقضية إنسانية بل كمفتاح لصياغة توازنات إقليمية جديدة.

حين خرج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مؤخرا متحدثا عن سد النهضة وأعلن بوضوح أن الولايات المتحدة هي من موّلت بناءه لم يكن مجرد تصريح عابر ، بل رسالة مباشرة مفادها: من يمول يملك ومن يمنح يستطيع أن يمنع. التصريحات التي جاءت في سياق لقاء مع الأمين العام لحلف الناتو لم تكن بريئة ولا مفككة عن سياق أوسع فجأة يعود سد النهضة إلى الواجهة لا بصفته مشروعا تنمويا إفريقيا بل كورقة في يد واشنطن تُلوّح بها في وجه الجميع لتعيد ضبط الإيقاع الجيوسياسي في منطقة مضطربة أصلا.

منذ سنوات ومصر تخوض معركة الماء بصبر وكفاءة رفضت الانجرار إلى مواجهات مفتوحة لكنها في الوقت نفسه لم تسمح لأحد بالعبث بحقوقها المائية. والإدارة الأمريكية تعرف أن القاهرة باتت تمتلك من البدائل والإجراءات ما يجعل ورقة السد أقل تأثيرا مما كان مخططا له. لكن إعادة فتح الملف من جديد وبصوت رئيس أمريكي ، يعني أن هناك أهدافًا أخرى تتجاوز النيل إلى مجالات أوسع وأن السد لم يكن في الأصل مشروعًا إثيوبيا خالصا بل جزءا من معادلة مصالح دولية كانت واشنطن في القلب منها.

الوجه الآخر للورقة هو ملف اللاجئين. في الوقت الذي يعيش فيه العالم أسوأ أزماته الإنسانية تتحول معاناة اللاجئين إلى أوراق مساومة على طاولات السياسة. من غزة إلى سوريا ومن السودان إلى إفريقيا الوسطى ، اللاجئون يتحولون من بشر إلى أرقام ومن أرقام إلى شروط ومن شروط إلى أدوات ضغط. والولايات المتحدة التي تملك نفوذا في المنظمات الدولية وبعض أدوات التمويل وبعض خيوط القرار الأممي تُلوّح مرارا بهذه الورقة خاصة تجاه الدول التي ترفض الانخراط في بعض التسويات أو التي تحتفظ باستقلال قرارها.

مصر كانت هدفا مباشرا لهذه المحاولات. فحين رفضت القاهرة مقايضة الأرض بالهدوء ورفضت قبول أي شكل من أشكال التهجير الجماعي للفلسطينيين تحت مسمى “حل مؤقت”، بدأت بعض الدوائر في واشنطن تلوّح بورقة اللاجئين: التمويل مقابل التوطين الدعم مقابل الصمت المساعدات مقابل التنازل. لكن القاهرة لم تنحنِ. وكان موقفها ثابتا في رفض المقايضات أياً كان الغطاء الإنساني أو الدبلوماسي لها.

وهكذا يتضح أن واشنطن حين تتحدث بلغة الماء أو البشر فهي لا تتحدث من فراغ. هي لا تبكي من أجل الأطفال ولا تقلق من أجل النيل بل تبحث عن أوراق إضافية تُعيد بها فرض نفسها في عالم بات أكثر تعقيدا وأقل خضوعا. هي تُدرك أن الهيمنة لم تعد كما كانت فتحاول إعادة إنتاجها بأساليب ناعمة مموّهة تُخفي تحت غطاء “القلق” رغبة جامحة في السيطرة.

لكن مصر التي خبرت ألاعيب القوى الكبرى تدرك جيدًا أن الماء لا يُقايض، واللاجئين لا يُباعون والسيادة لا تُستأجر. لهذا تسير بثبات وتُعد نفسها لكل السيناريوهات وتتمسك بحقوقها دون ضجيج وتُفاوض دون استسلام وتُذكّر العالم بأن النيل ليس نهرا فقط بل اختبارا حقيقيا لفهم الشعوب لقيمتها ولقدرتها على حماية مقدراتها.

إن المعركة القادمة ليست فقط مع من يبني السد بل مع من يستخدم الماء واللاجئين كأدوات ابتزاز. والمواقف لا تُقاس بالأمنيات بل بالقدرة على الصمود أمام هذا النوع من الضغوط المعقّدة، والقدرة على كشف النوايا خلف العبارات البراقة. فليس كل من قال “نحن قلقون” صادقا ولا كل من وعد بالمساعدة نزيها ، ولا كل من دعا للسلام ساعيا إليه حقا.

هذا زمن الأقنعة الرقيقة والكلمات المدروسة والصراعات المغلفة بالشعارات. ومن يملك الحق لا بد أن يملك القوة التي تحميه والوعي الذي يكشف اللعبة قبل أن تبدأ.