شحاتة زكريا يكتب: ما بعد الصمت الدولي.. هل يكتب الفلسطينيون تاريخهم وحدهم؟

0

في زمن يزعم أنه تجاوز عصور الحروب الصامتة يقف الفلسطينيون اليوم أمام امتحان أخلاقي للعالم بأسره امتحان لم ينجح فيه أحد حتى الآن. الدم يسيل في الشوارع ، والبيوت تتحول إلى غبار ، وأصوات الأطفال المذعورة تتردد في الهواء بينما العالم يجلس في مقاعد المتفرجين صامتا وكأن المشهد لا يعنيه. لم يعد الصمت حيادا بل صار موقفا منحازا لصالح القاتل وغطاء أخلاقيا لجرائمه. ومن بين هذا الركام يولد السؤال الذي يطارد الضمائر الحية: هل كُتب على الفلسطينيين أن يكتبوا تاريخهم وحدهم بالحبر الأحمر لا الأسود؟

التاريخ الفلسطيني لم يُكتب يوما في قاعات المؤتمرات بل في المخيمات ، في الحقول المسروقة وفي مفاتيح البيوت التي يحملها الأبناء عن أجدادهم جيلا بعد جيل. واليوم يواصل الفلسطينيون كتابة فصوله بطرق لا يعرفها العالم المترف؛ بحجارة الأطفال بأنفاس المقاومين بصمود الأمهات اللواتي يدفن أبناءهن ثم يقفن على أبواب بيوتهن لتوزيع الماء على الجيران. إنهم لا يملكون رفاهية انتظار قرار دولي ولا يراهنون على ضمير مجلس الأمن لأن حياتهم اليومية صارت معركة بقاء ولأنهم يعلمون أن التاريخ لن يرحم من تركهم وحدهم.

الصمت الدولي ليس هزيمة لهم بل هزيمة للمنظومة الأخلاقية التي ادّعت حماية حقوق الإنسان. إنه يكشف عجز المؤسسات التي رفعت شعارات العدالة حين كان ذلك يوافق مصالحها ، وتجاهلتها حين اصطدمت بجدار السياسة. الفلسطيني اليوم هو الضحية والشاهد والقاضي في آن واحد، يدوّن الجرائم ويحفظ الأسماء ويروي الحكايات حتى إذا غيّر المنتصرون الخرائط ظلّت الرواية الحقيقية عصية على المحو.

المعركة الآن ليست فقط على الأرض ، بل على الذاكرة. من يمتلك الرواية يمتلك المستقبل ، ولهذا فإن حفظ أسماء الشهداء وتوثيق حكايات الأسرى واستعادة صور القرى المدمّرة كلها أفعال مقاومة لا تقل عن المواجهة في ساحات القتال. كل طفل يخرج حيًا من تحت الأنقاض يعلن للعالم: نحن باقون. كل أمّ تحبس دموعها أمام الكاميرات تقول: لن نرحل. كل جدار يُكتب عليه “العودة” هو توقيع على وثيقة لا يمكن للعالم تمزيقها.

قد يبدو أن الفلسطينيين يكتبون تاريخهم وحدهم لكن الحقيقة أن كل صوت حر في هذا العالم كل شخص يرفض الظلم هو نقطة في هذا السطر الطويل. وحين ينكسر الصمت ، كما ينكسر الزجاج تحت أول صرخة ، سيتضح أن الرواية الفلسطينية لم تكن صرخة في الفراغ بل كانت نداء أعاد تعريف الشرف الإنساني. الفلسطينيون قد لا يغيرون ضمائر العالم في ليلة واحدة لكنهم بصمودهم قادرون على تغيير مجرى التاريخ نفسه… والتاريخ كما نعلم لا يرحم من صمت حين كان يجب أن يصرخ.