شحاتة زكريا يكتب: ما بعد هدير المدافع.. هل هناك حقًا منتصر؟

0

في زمن تتقاطع فيه الجغرافيا مع المصالح ، ويتشابك فيه الدم بالحسابات الدولية ، يبدو أن السؤال الأكثر صدقا وبساطة وسط ركام الكلمات وصخب التصريحات هو: من انتصر حقا؟ لا إجابة واضحة. الكل يعلن النصر والكل يحمل جثثه على ظهره.

في غزة تتكلم الأرض بلغة الدم وحدها. أطفال يتساقطون في طوابير الخبز وأمهات يفتشن بين الأنقاض عن أطراف صغارهن. ووسط هذا الجحيم لا تزال آلة القتل الإسرائيلية تُمعن في قصف كل ما هو حي ، ونتنياهو يتقمص دور المنتصر بينما جثث الضحايا تُنقل بلا نعوش.

عملية الطوفان لم تكن سوى شرارة أشعلت نارا إقليمية، امتدت من شوارع غزة إلى أعماق إيران ومن سماء تل أبيب إلى دهاليز القرار الأمريكي. 12 يوما من الرعب المتبادل بين إيران وإسرائيل تناثرت فيها الصواريخ وتبادل الطرفان الضربات لكن النتيجة لم تكن واضحة تماما كما أرادها أصحاب المسرح.

المرشد الإيراني يعلن النصر.ونتنياهو يزهو بانتصار وهمي وترامب – الذي ما زال يحلم بالعودة – يروج لفكرة أنه منقذ العالم من النووي الإيراني ، كأننا أمام سباق خطابي بين ممثلين في مسرح عبثي بينما القتيل الحقيقي هو الإنسان الفلسطيني.

الذكاء الاصطناعي نفسه رغم ما يدعيه من قدرة على تحليل الاحتمالات سيقف عاجزا أمام سؤال: هل انتصر أحد في هذه المعركة؟ الواقع يقول لا. إسرائيل كشفت عجزها الأمني رغم مليارات الدولارات الأمريكية التي صُرفت على “القبة الحديدية”، وإيران لم تُثبت بعد للعالم ما تدعيه من اختراقات استراتيجية فيما تستمر عمليات الاغتيال داخل أراضيها في فضح هشاشتها.

على الأرض كل ما فعله هذا التصعيد أنه أعاد تموضع اللاعبين ، وأعاد خلط أوراق الأزمة الفلسطينية. إيران – التي كانت أحد الرعاة الرئيسيين لحركة حماس – انسحبت خطوة إلى الخلف ، ربما بانتظار صفقة نووية جديدة أو إعادة ترتيب أولوياتها، بينما حزب الله لزم الصمت التكتيكي بعد أن وصلت الرسائل بوضوح.

في المقابل إسرائيل لم تُحقق إلا المزيد من العزلة وخسائرها البشرية والاقتصادية لا تستطيع دعاية الجيش إخفاءها. ومخططات التهجير – الناعمة منها والخشنة – التي تُطبخ على نار هادئة في غرف واشنطن وتل أبيب لم تتوقف بل أخذت طابعا أكثر خبثا عبر الحديث عن “الهجرة الطوعية” للفلسطينيين مدفوعة بإغراءات أو فقر أو رعب.

وسط كل ذلك يعود سؤال “الانقسام الفلسطيني” ليظهر كجذر دائم لكل هزيمة. الانقسام لم يكن مجرد تباين سياسي، بل تحوّل إلى سلاح فعال بيد تل أبيب بل إن إسرائيل لم تكن بحاجة إلى عملاء حين صار كل فصيل فلسطيني مشغولًا بمنازعة الآخر على سلطة بلا دولة، وراية بلا كيان.

فهل آن الأوان للفلسطينيين أن يعيدوا ترتيب بيتهم؟ أن تكون الأولوية لفلسطين، لا لإيران أو لأي لاعب إقليمي؟ أن تُرفع راية واحدة لا تخضع للتوجيه من طهران أو أنقرة أو أي عاصمة غير القدس؟

الحقيقة أن القضية الفلسطينية أُرهقت من المزايدات أكثر مما أرهقتها الحروب. وكل من أراد الاستثمار فيها – من تنظيمات إلى أنظمة – لم يقدّم لها إلا مزيدا من الدماء بلا جدوى سياسية حقيقية. حتى مشاهد البطولة التي صمدت في الذاكرة، اختلطت في وعي الناس اليوم بصور الأبناء تحت الأنقاض.

السلام لا يُولد من رحم مدفع ولا تُبنى دولة على نعيق الطائرات المسيرة. إن أردنا لفلسطين مستقبلًا.فلا بد من نزع القضية من يد تجار السياسة والدم وإعادتها إلى أصحابها الحقيقيين: الناس الذين يريدون حياة، لا نشيدًا حماسيًا ولا بيان نصر وهمي.

إن حرب غزة الأخيرة – بكل مآسيها – وضعت الجميع أمام المرايا، وعرّت الخطابات من زيفها. فلنحترم دماء الشهداء بالعمل ، لا بالتصريحات. ولنعترف بشجاعة أن معارك “الكل منتصر” ليست إلا مسرحيات خاسرة، وأثمانها تُدفع من أجساد الأطفال، لا من حسابات القادة.