شحاتة زكريا يكتب: ما لم يُعلن في القمة.. كواليس ما بعد شرم الشيخ

60

لم تكن قمة شرم الشيخ مجرد لقاء سياسي بين زعماء ووفود بل لحظة فارقة في هندسة التوازنات الإقليمية وإعادة تعريف مفهوم السلام والعدالة في زمن تختلط فيه الحقائق وتذوب الحدود بين السياسة والإنسانية.
في القاعة التي تطل على البحر الأحمر اجتمع العالم ليستمع — لا إلى كلمات بروتوكولية — بل إلى خطاب الموقف المصري الذي أثبت مجددا أن القاهرة لا تُجيد سوى لغة واحدة: لغة الدولة المسؤولة التي تعرف متى تتدخل وكيف تفرض منطقها دون صخب أو ضجيج.

ما لم يُعلن في القمة أكبر مما سُجّل في البيانات الختامية. فبين الكواليس كان هناك تفاهم جديد تشكل بصمت يوازن بين الحق الفلسطيني وضرورات الأمن الإقليمي ، بين الوجع الإنساني وحسابات السياسة الباردة.
لقد أدرك الجميع أن مصر لم تأت لتُفاوض بالنيابة عن أحد بل لتمنح الأطراف جميعها فرصة أخيرة لتغليب صوت العقل قبل أن يتحول الصراع إلى فوضى مفتوحة على كل الاحتمالات.

في تلك القاعة لم تكن القاهرة تتحدث فقط باسم العرب بل باسم الضمير الإنساني الذي تآكل كثيرا في زحمة المصالح. كلمات الرئيس المصري حملت ما يشبه الإنذار الأخلاقي للعالم: أن الحرب لا يمكن أن تُدار كصفقة ، وأن الأرواح ليست بندا في ميزان المفاوضات.
ولهذا بدا صدى الموقف المصري أكبر من أي تحالف أو اصطفاف. فبينما كانت القوى الكبرى تحسب المكاسب والخسائر كانت مصر تُعيد صياغة السؤال نفسه: من يربح حين يخسر الإنسان؟

ما بعد القمة ليس كما قبلها. فشرم الشيخ لم تكن محطة نهاية لمباحثات هدنة مؤقتة ، بل بداية مسار جديد يُعيد ترتيب الأولويات في المنطقة.
ولعل أهم ما لم يُعلن رسميا هو ذلك التحوّل الهادئ في طريقة تفكير بعض القوى الإقليمية التي بدأت ترى أن تجاوز القاهرة أو الالتفاف على دورها ليس فقط مستحيلا بل مكلفا سياسيا وأخلاقيا. فالمشهد أوضح من أن يُخفى: لا تسوية دون مصر ولا استقرار دون صوتها.

المفارقة أن كل القوى — مهما اختلفت مواقفها — خرجت من القمة وهي أكثر قناعة بأن القاهرة تملك مفاتيح التهدئة ليس لأنها الأقوى عسكريا أو الأغنى اقتصاديا بل لأنها الأصدق في نواياها والأوضح في مقاصدها.
فحين يتحدث المصريون عن السلام لا يقصدون تسوية مؤقتة بل استعادة لمعنى الحياة ذاتها ومعنى العدالة الذي غاب طويلا خلف دخان الحرب.

تسربت من القمة إشارات دقيقة لا يمكن تجاهلها. أولها أن المجتمع الدولي بدأ يدرك أن استمرار العدوان على غزة لم يعد مقبولا لا سياسيا ولا أخلاقيا وأن تجاهل البعد الإنساني بات تهديدا مباشرا لصورة القوى الكبرى نفسها.
وثانيها أن هناك تحركات غير معلنة لتأسيس مسار تفاوضي مواز يهدف إلى تثبيت وقف إطلاق النار على أسس إنسانية لا تخضع للابتزاز السياسي أو الشروط المسبقة.
أما ثالثها فهو التحوّل في لغة بعض الدبلوماسيين الغربيين الذين أصبحوا يتحدثون عن الحق الفلسطيني بجرأة أكبر بعدما كانت تلك الجملة تُعتبر لعقود من المحرمات السياسية.

من كواليس القمة أيضا أن القاهرة وضعت أمام الجميع خريطة طريق واضحة: تبدأ بوقف فوري للعدوان مرورا بإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين من الجانبين ثم بدء عملية إعادة الإعمار تحت إشراف دولي تقوده مصر.
هي رؤية واقعية تُوازن بين الحدّ الأدنى من العدالة والحدّ الأقصى من الممكن السياسي لكنها أيضا تحمل روحا إنسانية تمنحها الشرعية الأخلاقية التي افتقدتها معظم المبادرات السابقة.

العالم في شرم الشيخ بدا كأنه أمام مرآة جديدة. لم يعد بالإمكان التلاعب بالخطاب الإنساني أو إخفاء الجرائم خلف شعارات الأمن القومي. لقد سقطت الأقنعة وبقيت الحقيقة المجردة كما هي: أن الأمن لا يتحقق بالقوة وحدها وأن الاحتلال لا يمكن أن يلد سلاما مهما طال الزمن.

في المقابل خرجت القاهرة من القمة أكثر حضورا وثقة بعدما أثبتت أن قدرتها على جمع المتناقضات ليست صدفة تاريخية بل امتداد طبيعي لدورها الحضاري والسياسي عبر العقود.
لقد أعادت مصر تعريف الوساطة بوصفها فعل مسؤولية لا وسيلة نفوذ ورسخت صورة الدولة التي تحافظ على ثوابتها مهما تبدلت الاتجاهات.

ما لم يُعلن في القمة سيُكتب قريبا في فصول قادمة من السياسة الدولية لأن ما بدأ في شرم الشيخ لم يكن مؤتمرا بل بداية لحوار ضمير عالمي يبحث عن نفسه وسط الركام.
أما الدرس الأهم فهو أن صوت الحكمة لا يعلو بالميكروفونات بل بالموقف المتزن في لحظة الانفجار.
وهذا بالضبط ما فعلته مصر.

بقلم: شحاتة زكريا